ثم يعقب القرآن على هذا الاستمتاع المتبادل بين الضالين والمضلين من الجن والإنس فيقول : { وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } .
ونولى : من الولاية بمعنى القرابة ، والنصرة ، والمحالفة وما إلى ذلك من أنواع الاتصال .
أى : ومثل ما سبق من تمكين الجن من إغواء الإنس وإضلالهم لما بينهم من التناسب والمشاكلة ، نولى بعض الظالمين من الإنس بعضا آخر منهم بأن نجعلهم يزينون لهم السيئات ، ويؤثرون فيهم بالإغواء . بسبب ما كانوا مستمرين عى اكتسابه من الكفر والمعاصي .
قال الإمام الرازى : " لأن الجنسية علة الضم " فالأرواح الخبيثة تنضم إلى ما يشاكلها فى الخبث . وكذا القول فى الأرواح الطاهرة ، فكل أحد يهتم بشأن من يشاكله فى النصرة والمعونة والتقوية .
ثم قال : والآية تدل على أن الرعية متى كانوا ظالمين فالله - تعالى - يسلط عليهم ظالما مثلهم . فإن أرادوا أن يتخلصوا من ذلك الأمير الظالم فليتركوا الظلم " .
وقال ابن كثير : معنى الآية الكريمة : كما ولينا هؤلاء الخاسرين من الإنس تلك الطائفة التى أغوتهم من الجن ، كذلك نفعل بالظالمين ، نسلط بعضهم على بعض ، ونهلك بعضهم ببعض ، وننتقم من بعضهم ببعض جزاء على ظلمهم وبغيهم " .
وقال الفضيل بن عياض : إذا رأيت ظالما ينتقم من ظالم . فقف وانظر فيه متعجبا .
فالآية الكريمة تصور لنا مشهدا واقعا فى حياة الأمم ، وهو أن الظالمين من الناس يوالى بعضهم بعضا ، ويناصر بعضهم بعضا ، بسبب ما بينهم من صلات فى المشارب والأهداف والطباع وأن الأمة التى لا تتمسك بمبدأ العدالة بل تسودها روح الظلم والاعتداء يكون حكامها عادة على شاكلتها لأن الحاكم الظالم لا يستطيع البقاء عادة فى مجتمع أفراده تسودهم العدالة والشجاعة فى الحق .
والآية فى الوقت ذاته تهدد الظالمين ، وتتوعدهم بسوء المصير إذا لم يقلعوا عن ظلمهم ، ويثوبوا إلى رشدهم ، ويقيدوا أنفسهم بمبدأ العدالة ورعاية الحق
وقبل استئناف الحوار لإتمام المشهد ، يتحول السياق للتعقيب على شطر المشهد المنتهي :
( وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون ) . .
بمثل هذا الذي قام بين الجن والإنس من ولاء ؛ وبمثل ما انتهى إليه هذا الولاء من مصير . . بمثل ذلك ، وعلى قاعدته ، نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون . نجعل بعضهم أولياء بعض ؛ بحكم ما بينهم من تشابه في الطبع والحقيقة ؛ وبحكم ما بينهم من اتفاق في الوجهة والهدف ، وبحكم ما ينتظرهم من وحدة في المصير . .
وهو تقرير عام أبعد مدى من حدود المناسبة التي كانت حاضرة ، إنه يتناول طبيعة الولاء بين الشياطين من الإنس والجن عامة . فإن الظالمين - وهم الذين يشركون بالله في صورة من الصور - يتجمع بعضهم إلى بعض في مواجهة الحق والهدى ؛ ويعين بعضهم بعضا في عداء كل نبي والمؤمنين به . إنهم فضلا على أنهم من طينة واحدة - مهما اختلفت الأشكال - هم كذلك أصحاب مصلحة واحدة ، تقوم على اغتصاب حق الربوبية على الناس ، كما تقوم على الانطلاق مع الهوى بلا قيد من حاكمية الله . .
ونحن نراهم في كل زمان كتلة واحدة يساند بعضهم بعضا - على ما بينهم من خلافات وصراع على المصالح - إذا كانت المعركة مع دين الله ومع أولياء الله . . فبحكم ما بينهم من اتفاق في الطينة ، واتفاق في الهدف يقوم ذلك الولاء . . وبحكم ما يكسبون من الشر والإثم تتفق مصائرهم في الآخرة على نحو ما رأينا في المشهد المعروض !
وإننا لنشهد في هذه الفترة - ومنذ قرون كثيرة - تجمعا ضخما لشياطين الإنس من الصليبين والصهيونيين والوثنيين والشيوعيين - على اختلاف هذه المعسكرات فيما بينها - ولكنه تجمع موجه إلى الإسلام ، وإلى سحق طلائع حركات البعث الإسلامي في الأرض كلها .
وهو تجمع رهيب فعلا ، تجتمع له خبرة عشرات القرون في حرب الإسلام ، مع القوى المادية والثقافية ، مع الأجهزة المسخرة في المنطقة ذاتها للعمل وفق أهداف ذلك التجمع وخططه الشيطانية الماكرة . . وهو تجمع يتجلى فيه قول الله سبحانه : ( وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون ) . . كما ينطبق عليه تطمين الله لنبيه - [ ص ] : ( ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون ) . . ولكن هذا التطمين يقتضي أن تكون هناك العصبة المؤمنة التي تسير على قدم رسول الله [ ص ] وتعلم أنها تقوم مقامه في هذه المعركة المشبوبة على هذا الدين ، وعلى المؤمنين . .
قال سعيد ، عن قتادة في تفسيرها : وإنما يولي الله{[11217]} الناس بأعمالهم ، فالمؤمن ولي المؤمن أين كان وحيث كان ، والكافر ولي الكافر أينما كان وحيثما كان ، ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي . واختاره{[11218]} ابن جرير .
وقال معمر ، عن قتادة في تفسيرها : { نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا } في النار ، يتبع بعضهم بعضا .
وقال مالك بن دينار : قرأت في الزبور : إني أنتقم من المنافقين بالمنافقين ، ثم أنتقم من المنافقين جميعا ، وذلك في كتاب الله قوله تعالى{[11219]} { وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا }
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : { وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا } قال : ظالمي الجن وظالمي الإنس ، وقرأ : { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [ الزخرف : 36 ] ، قال : ونسلط{[11220]} ظلمة الجن على ظلمة الإنس .
وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الباقي بن أحمد ، من طريق سعيد بن عبد الجبار الكرابيسي ، عن حماد بن سلمة ، عن عاصم ، عن زِرِّ ، عن ابن مسعود مرفوعا : " من أعان ظالما سلطه الله عليه " {[11221]} .
وهذا حديث غريب ، وقال بعض الشعراء :
وما مِن يَد إلا يدُ الله فوقها *** ولا ظالم إلا سَيُبلى بظالم
ومعنى الآية الكريمة : كما ولينا هؤلاء الخاسرين من الإنس تلك الطائفة التي أغْوَتهم من الجن ، كذلك نفعل بالظالمين ، نسلط بعضهم على بعض ، ونهلك بعضهم ببعض ، وننتقم من بعضهم ببعض ، جزاء على ظلمهم وبغيهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.