33- والله هو الذي خلق الليل والنهار ، والشمس والقمر ، كلٌ يجرى في مجاله الذي قدَّره الله له ، ويسبح في فلكه لا يحيد عنه{[129]} .
ثم ختم - سبحانه - هذه الآيات الدالة على قدرته ووحدانيته بقوله - تعالى - { وَهُوَ الذي خَلَقَ الليل والنهار والشمس والقمر كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } .
أى : وهو وحده - سبحانه - الذى خلق بقدرته الليل والنهار بهذا النظام البديع ، وخلق الشمس والقمر بهذا الإحكام العجيب " كل " أى : كل واحد من الشمس والقمر يسير فى فلكه وطريقه المقدر له بسرعة وانتظام ، كالسابح فى الماء .
وقوله : { يَسْبَحُونَ } من السبح وهو المر السريع فى الماء أو الهواء .
وجاء يسبحون بمضير العقلاء . لكون السباحة المسندة إليهما من فعل العقلاء ، كما فى قوله - تعالى - : { والشمس والقمر رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } هذا والمتأمل فى هذه الآيات يراها قد ساقت جملة من الأدلة على وحدانية الله - تعالى - وعلى كمال قدرته .
( وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون ) .
والليل والنهار ظاهرتان كونيتان . والشمس والقمر جرمان هائلان لهما علاقة وثيقة بحياة الإنسان في الأرض . وبالحياة كلها . . والتأمل في توالي الليل والنهار ، وفي حركة الشمس والقمر . بهذه الدقة التي لا تختل مرة ؛ وبهذا الإطراد الذي لا يكف لحظة . . جدير بأن يهدي القلب إلى وحدة الناموس ، ووحدة الإرادة ، ووحدة الخالق المدبر القدير .
وقوله : وَهُوَ الّذِي خَلَقَ اللّيْلَ والنّهارَ والشّمْسَ والقَمَرَ كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ يقول تعالى ذكره : والله الذي خلق لكم أيها الناس الليل والنهار ، نعمة منه عليكم وحجة ودلالة على عظيم سلطانه وأن الألوهة له دون كلّ ما سواه فهما يختلفان عليكم لصلاح معايشكم وأمور دنياكم وآخرتكم ، وخلق الشمس والقمر أيضا كلّ في فَلَكٍ يَسْبَحُونَ يقول : كلّ ذلك في فلك يسبحون .
واختلف أهل التأويل في معنى الفلك الذي ذكره الله في هذه الاَية ، فقال بعضهم : هو كهيئة حديدة الرّحَى . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ قال : فلك كهيئة حديدة الرحى .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : كُلّ فِي فَلَكٍ قال : فلك كهيئة حديدة الرحى .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثني جرير ، عن قابوس بن أبي ظَبيان ، عن أبيه ، عن ابن عباس : كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ قال : فلك السماء .
وقال آخرون : بل الفلك الذي ذكره الله في هذا الموضع سرعة جري الشمس والقمر والنجوم وغيرها . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول قي قوله : كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ الفلك : الجري والسرعة .
وقال آخرون : الفلك موج مكفوف تجري الشمس والقمر والنجوم فيه .
وقال آخرون : بل هو القطب الذي تدور به النجوم . واستشهد قائل هذا القول له هذا بقول الراجز :
باتَتْ تُناجِي الفَلَكَ الدّوّارَا *** حتى الصّباحِ تعمَل الأَقْتارَا
حدثنا به بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ : أي في فلك السماء .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ قال : يجري في فلك السماء كما رأيت .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله : كُلّ فِي فَلَكٍ يسْبَحُونَ قال : الفلك الذي بين السماء والأرض من مجاري النجوم والشمس والقمر . وقرأ : تَبارَكَ الّذِي جَعَلَ فِي السّماءِ بُرُوجا وَجَعَلَ فِيها سِرَاجا وَقَمَرا مُنِيرا وقال : تلك البروج بين السماء والأرض وليست في الأرض . كلّ في فَلكٍ يَسْبَحُونَ قال : فيما بين السماء والأرض : النجوم والشمس والقمر .
وذُكر عن الحسن أنه كان يقول : الفلك طاحونة كهيئة فَلْكَة المغزل .
والصواب من القول في ذلك أن يقال كما قال الله عزّ وجلّ : كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ وجائز أن يكون ذلك الفلك كما قال مجاهد كحديدة الرّحَى ، وكما ذُكر عن الحسن كطاحونة الرّحَى ، وجائز أن يكون موجا مكفوفا ، وأن يكون قطب السماء . وذلك أن الفلك في كلام العرب هو كل شيء دائر ، فجمعه أفلاك ، وقد ذكرت قول الراجز :
*** باتَتْ تُناجِي الفُلْكَ الدّوّارَا ***
وإذ كان كل ما دار في كلامها ، ولم يكن في كتاب الله ولا في خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عمن يُقطع بقوله العذُر ، دليلٌ يدل على أيّ ذلك هو من أيَ كان الواجب أن نقول فيه ما قال ونسكت عما لا علم لنا به .
فإذا كان الصواب في ذلك من القول عندنا ما ذكرنا ، فتأويل الكلام : والشمس والقمر ، كلّ ذلك في دائر يسبحون .
وأما قوله : يَسْبَحُونَ فإن معناه : يَجْرُون . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ قال : يجرون .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : يَسْبَحُونَ قال : يجرون . وقيل : كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ فأخرج الخبر عن الشمس والقمر مخرج الخبر عن بني آدم بالواو والنون ، ولم يقل : «يسبحن » أو «تسبح » ، كما قيل : والشّمْسَ والقَمَرَ رَأيْتُهُمْ لي ساجِدِينَ لأن السجود من أفعال بني آدم ، فلما وصفت الشمس والقمر بمثل أفعالهم أجرى الخبر عنهما مجرى الخبر عنهم .
{ وهي الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر }
لما كانت في إيجاد هذه الأشياء المعدودة هنا منافع للناس سيقت في معرض المنة بصوغها في صيغة الجملة الاسمية المعرّفة الجزأيْن لإفادة القصر ، وهو قصر إفراد إضافي بتنزيل المخاطبين من المشركين منزلة من يعتقد أن أصنامهم مشاركة لله في خلق تلك الأشياء ، لأنهم لما عبدوا الأصنام ، والعبادة شكر ، لزمهم أنهم يشكرونها وقد جعلوها شركاء لله فلزمهم أنهم يزعمون أنها شريكة لله في خلق ما خلق لينتقل من ذلك إلى إبطال إشراكهم إياها في الإلهية .
ولكون المنة والعبرة في إيجاد نفس الليل والنهار ، ونفس الشمس والقمر ، لا في إيجادها على حالة خاصة ، جيء هنا بفعل الخلق لا بفعل الجعل .
وخلق الليل هو جزئي من جزئيات خلق الظلمة التي أوجد الله الكائنات فيها قبل خلق الأجسام التي تُفيض النور على الموجودات ، فإن الظلمة عدم والنور وجودي وهو ضد الظلمة ، والعدم سابق للوجود فالحالة السابقة لوجود الأجرام النيرة هي الظلمة ، والليل ظلمة ترجع لجرم الأرض عند انصراف الأشعة عن الأرض .
وأما خلق النهار فهو بخلق الشمس ومن توجُّه أشعتها إلى النصف المقابل للأشعة من الكرة الأرضية ، فخلْق النهار تبع لخلق الشمس وخلقِ الأرض ومقابلةِ الأرض لأشعة الشمس ، ولذلك كان لذكر خلق الشمس عقب ذكر خلق النهار مناسبة قوية للتنبيه على منشأ خلق النهار كما هو معلوم .
وأما ذكر خلق القمر فلمناسبة خلق الشمس ، وللتذكير بمنة إيجاد ما ينير على الناس بعض النور في بعض أوقات الظلمة . وكل ذلك من المنن .
{ كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }
مستأنفة استئنافاً بيانياً لأنه لما ذكر الأشياء المتضادة بالحقائق أو بالأوقات ذكراً مجملاً في بعضها الذي هو آيات السماء ، ومفصلاً في بعض آخر وهو الشمس والقمر ، كان المقامُ مثيراً في نفوس السامعين سؤالاً عن كيفية سيرها وكيف لا يقع لها اصطدام أو يقع منها تخلف عن الظهور في وقته المعلوم ، فأجيب بأن كل المذكورات له فضاء يسير فيه لا يلاقي فضاء سير غيره .
وضمير { يسبحون } عائد إلى عموم آيات السماء وخصوص الشمس والقمر . وأجري عليها ضمير جماعة الذكور باعتبار تذكير أسماء بعضها مثل القَمر والكوكب .
وقال في « الكشاف » : « إنه روعي فيه وصفُها بالسباحة التي هي من أفعال العقلاء فأجري عليها أيضاً ضمير العقلاء ، يعني فيكون ذلك ترشيحاً للاستعارة » .
وقوله تعالى { في فلك } ظرف مستقر خبر عن { كلّ } ، و { كل } مبتدأ وتنوينه عوض عن المضاف إليه ، أي كل تلك ، فهو معرِفة تقديراً . وهو المقصود من الاستئناف بأن يفاد أن كلاً من المذكورات مستقر في فلَك لا يصادم فلَك غيره ، وقد علم من لفظ ( كل ) ومن ظرفية ( في ) أن لفظ { فلك } عام ، أي لكل منها فلكُه فهي أفلاك كثيرة .
وجملة { يسْبحون } في موضع الحال .
والسبح : مستعار للسير في متسع لا طرائق فيه متلاقية كطرائق الأرض ، وهو تقريب لسير الكواكب في الفضاء العظيم .
والفلك فسره أهل اللغة بأنه مدار النجوم ، وكذلك فسره المفسرون لهذه الآية ولم يذكروا أنه مستعمل في هذا المعنى في كلام العرب . ويغلِب على ظني أنه من مصطلحات القرآن ومنه أخذه علماء الإسلام وهو أحسن ما يعبر عنه عن الدوائر المفروضة التي يضبط بها سير كوكب من الكواكب وخاصة سير الشمس وسير القمر .
والأظهر أن القرآن نقله من فلك البحر وهو الموج المستدير بتنزيل اسم الجمع منزلة المفرد . والأصل الأصيل في ذلك كله فَلْكة المَغْزِل بفتح الفاء وسكون اللام وهي خشبة مستديرة في أعلاها مِسمار مثني يدخل فيه الغزل ويدار لينفتل الغَزْل .
ومن بدائع الإعجاز في هذه الآية أن قوله تعالى : { كل في فلك } فيه محسّن بديعي فإن حروفه تُقرأ من آخرها على الترتيب كما تُقرأ من أولها مع خفة التركيب ووفرة الفائدة وجريانه مجرى المثل من غير تنافر ولا غرابة ، ومثله قوله تعالى : { ربك فكبِّر } [ المدّثر : 3 ] بطرح واو العطف ، وكلتا الآيتين بني على سبعة أحرف ، وهذا النوع سمّاه السكاكي « المقلوبَ المستوي » وجعله من أصناف نوع سمّاه القَلب .
وخص هذا الصنف بما يتأتى القلب في حروف كلماته . وسمّاه الحريري في « المقامات » « ما لا يستحيل بالانعكاس » وبنَى عليه المقامة السادسة عشَرة ووضح أمثلة نثراً ونظماً ، وفي معظم ما وضعه من الأمثلة تكلف وتنافر وغرابة ، وكذلك ما وضعه غيره على تفاوتها في ذلك والشواهد مذكورة في كتب البديع فعليك بتتبعها ، وكلما زادت طولاً زادت ثقلاً .
قال العلامة الشيرازي في « شرح المفتاح » : وهو نوع صعب المسلك قليل الاستعمال . قلت : ولم يذكروا منه شيئاً وقع في كلام العرب فهو من مبتكرات القرآن .
ذكر أهل الأدب أن القاضي الفاضل البيساني زارَ العمادَ الكاتب فلما ركب لينصرف من عنده قال له العماد : « سِرْ فلا كبَا بك الفرس » ففطن القاضي أن فيه محسن القلب فأجابه على البديهة : « دَام عُلا العماد » وفيه محسن القلب .