وقوله - سبحانه - : { قَالَ اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } جواب على طلبهم الخروج من النار ، والعودة إلى الدنيا .
أى : قال الله - تعالى - لهم على سبيل الزجر والتيئيس : { اخسئوا فِيهَا } اسكتوا وانزجروا انزجار الكلاب ، وامكثوا فى تلك النار { وَلاَ تُكَلِّمُونِ } فى شأن خروجكم منها ، أو فى شأن عودتكم إلى الدنيا .
وهو اعتراف تتجلى فيه المرارة والشقوة . . ولكن كأنما هم قد تجاوزوا حدهم وأساءوا أدبهم ، فلم يكن مأذونا لهم في غير الإجابة على قدر السؤال . بل لعله كان سؤالا للتبكيت لا يطلب عليه منهم جواب . فهم يزجرون زجرا عنيفا قاسيا :
قال : اخسأوا فيها ولا تكلمون . .
اخرسوا واسكتوا سكوت الأذلاء المهنين ، فإنكم لتستحقون ما أنتم فيه من العذاب الأليم والشقاء المهين :
وقوله : قالَ اخْسَئُوا فِيها يقول تعالى ذكره : قال الربّ لهم جلّ ثناؤه مجيبا : اخْسَئُوا فِيها أي اقعدوا في النار . يقال منه : خَسَأتُ فلانا أخْسَؤُه خَسْأً وخُسُوءا ، وخَسىء هو يخسَأ وما كان خاسئا ولقد خِسىء . وَلا تُكَلّمُونِ فعند ذلك أيس المساكين من الفرج ولقد كانوا طامعين فيه كما :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِيّ ، قال : حدثنا سفيان ، عن سَلَمة بن كُهَيل ، قال : ثني أبو الزعراء ، عن عبد الله ، في قصة ذكرها في الشفاعة ، قال : فإذا أراد الله ألاّ يُخْرج منها يعني من النار أحدا ، غير وجوههم وألوانها ، فيجيء الرجل من المؤمنين فيشفع فيهم ، فيقول : يا ربّ فيقول : من عرف أحدا فليخرجه قال : فيجيء الرجل فينظر فلا يعرف أحدا ، فيقول : يا فلان يا فلان فيقول : ما أعرفك . فعند ذلك يقولون : رَبّنا أخْرجْنا مِنْها فإنْ عُدْنا فإنّا ظالِمُونَ فيقول : اخْسَئُوا فيها وَلا تُكَلّمُونِ فإذا قالوا ذلك ، انطبقت عليهم جهنم فلا يخرج منها بشر .
حدثنا تميم بن المنتصر ، قال : أخبرنا إسحاق ، عن شريك ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مُرّة ، عن شَهر ابن حَوشب ، عن معدي كرب ، عن أبي الدّرْداء ، قال : يُرْسل أو يصبّ على أهل النار الجوع ، فيعدل ما هم فيه من العذاب ، فيستغيثون فيغاثون بالضّريع الذي لا يُسْمِن ولا يُغنِي من جوع ، فلا يغني ذلك عنهم شيئا . فيستغيثون ، فيغاثون بطعام ذي غُصّة ، فإذا أكلوه نَشِب في حلوقهم ، فيذكرون أنهم كانوا في الدنيا يحدرون الغصة بالماء . فيستغيثون ، فيرفع إليهم الحميم في كلاليب الحديد ، فإذا انتهى إلى وجوههم شوى وجوههم ، فإذا شربوه قطع أمعاءهم . قال : فينادون مالكا : لِيَقْضِ علينا ربك قال : فيتركهم ألف سنة ، ثم يجيبهم : إنكم ماكثون . قال : فينادون خَزَنة جهنم : ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب قالوا : أو لم تَكُ تأتيكم رسلكم بالبينات ؟ قالوا : بلى . قالوا : فادعوا ، وما دعاء الكافرين إلا في ضلال قال : فيقولون ما نجد أحدا لنا من ربنا ، فينادون ربهم : رَبّنا أخْرِجْنا مِنْها فإنْ عُدْنا فإنّا ظالِمُونَ . قال : فيقول الله : اخْسَئُوا فِيها وَلا تُكَلّمُونِ . قال : فعند ذلك يئسوا من كل خير ، فيدْعُون بالويل والشّهيق والثّبور .
حدثني محمد بن عُمارة الأسديّ ، قال : حدثنا عاصم بن يوسف اليربوعيّ ، قال : حدثنا قُطْبة بن عبد العزيز الأسديّ ، عن الأعمش ، عن شمر بن عطية ، عن شهر بن حوشب ، عن أمّ الدرداء ، عن أبي الدرداء ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يُلْقَى عَلى أهْلِ النّارِ الجُوعُ » . . . ثم ذكر نحوا منه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب القُمّى ، عن هارون بن عنترة ، عن عمرو بن مَرّة ، قال : يرى أهل النار في كل سبعين عاما ساق مالك خازن النار ، فيقولون : يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبّكَ فيجيبهم بكلمة . ثم لا يرونه سبعين عاما ، فيستغيثون بالخَزَنة ، فيقولون لهم : ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب فيجيبونهم : أوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بالبَيّناتِ . . . الاَية . فيقولون : ادعوا ربكم ، فليس أحد أرحم من ربكم فيقولون : رَبّنا أخْرِجْنا مِنْها فإنْ عُدْنا فإنّا ظالِمُونَ . قال : فيجيبهم : اخْسَئُوا فيها وَلا تُكَلّمُونِ . فعند ذلك ييأَسُون من كلّ خير ، ويأخذون في الشهيق والوَيْل والثّبور .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : اخْسَئُوا فيها وَلا تُكِلّمُونِ قال : بلغني أنهم ينادُون مالكا فيقولون : ليقض علينا ربك فيسكت عنهم قدر أربعين سنة ، ثم يقول : إنّكُمْ ماكِثُونَ . قال : ثم ينادُون ربهم ، فيسكت عنهم قدر الدنيا مرّتين ، ثم يقول : اخْسَئُوا فِيها وَلا تُكَلّمُونِ . قال : فييأس القوم ، فلا يتكلمون بعدها كلمة ، وكان إنما هو الزفير والشهيق . قال قتادة : صوت الكافر في النار مثل صوت الحمار : أوّله زفير ، وآخره شهيق .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، مثله .
حدثنا الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن عيسى ، قال : أخبرني زياد الخراسانيّ ، قال : أسنده إلى بعض أهل العلم ، فنسيته ، في قوله : اخْسَئُوا فِيها وَلا تُكَلّمُونَ قال : فيسكتون ، قال : فلا يسمع فيها حِس إلا كطنين الطّسْت .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : اخْسَئُوا فِيها وَلا تُكَلّمُونِ هذا قول الرحمن عزّ وجلّ ، حين انقطع كلامهم منه .
ثم تدرجوا من الإقرار إلى الرغبة والتضرع وذلك أنهم ذلوا لأن الإقرار بالذنب اعتذار وتنصل ، فوقع جواب رغبتهم بحسب ما حتمه الله من عذابهم بقوله تعالى : { اخسؤوا فيها ولا تكلمون } وجاء { ولا تكلمون } بلفظ نهي وهم لا يستطيعون الكلام على ما روي فهذا مبالغة في المنع ، ويقال إن هذه الكلمة إذا سمعوها يئسوا ، وحكى الطبري حديثاً طويلاً في مقاولة تكون بين الكفار وبين مالك خازن النار ، ثم بينهم وبين ربهم وآخرها هذه الكلمة { اخسؤوا فيها } قال فتنطبق عليهم جهنم ويقع اليأس ويبقون ينبح بعضهم في وجه بعض{[8551]} .
قال الفقيه الإمام القاضي : واختصرت هذا الحديث لعدم صحته لكن معناه صحيح عافانا الله من ناره بمنه ، وقوله { اخسؤوا } زجر يستعمل في زجر الكلاب ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لابن صياد اخسأ فلن تعدو قدرك{[8552]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.