وقوله - سبحانه - : { فاتخذتموهم سِخْرِيّاً . . . } هو محط التعليل ، أى : فكان حالكم معهم أنكم سخرتم واستهزأتم بهم .
{ حتى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي } أى : فاتخذتموهم سخريا ، وداومتم على ذلك ، وشغلكم هذا الاستهزاء . حتى أنسوكم - لكثرة انهماككم فى السخرية بهم - تذكر عقابى لكم فى هذا اليوم ، { وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ } فى الدنيا ، وتتغامزون عندما ترونهم استخفافا بهم .
( إنه كان فريق من عبادي يقولون : ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين . فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري ، وكنتم منهم تضحكون ) . .
وكذلك لم يكن جرمكم أنكم كفرتم فحسب ، واقتصرتم على أنفسكم بالكفر وهو جرم عظيم ؛ إنما بلغ بكم السفه والتوقح أن تسخروا ممن آمنوا ، وراحوا يرجون غفران ربهم ورحمته ؛ وأن تضحكوا منهم حتى ليشغلكم هذا الهذر عن ذكر الله ، ويباعد بينكم وبين التدبر والتفكر في دلائل الإيمان المبثوثة في صفحات الوجود . . فانظروا اليوم أين مكانكم ومكان أولئك الذين كنتم تسخرون منهم وتضحكون :
القول في تأويل قوله تعالى : { فَاتّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتّىَ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مّنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوَاْ أَنّهُمْ هُمُ الْفَآئِزُونَ } .
يقول تعالى ذكره : فاتخذتم أيها القائلون لربهم رَبّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وكُنا قَوْما ضَالّينَ في الدنيا ، القائلين فيها رَبنا آمَنّا فاغْفِرْ لَنا وَارْحمْنا وأنْتَ خَيْرُ الرّاحِمِينَ سُخْريّا . والهاء والميم في قوله : فاتّخَذْتُمُوهُمْ من ذكر الفريق .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : سُخْرِيّا فقرأه بعض قرّاء الحجاز وبعض أهل البصرة والكوفة : فاتّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّا بكسر السين ، ويتأوّلون في كسرها أن معنى ذلك الهزء ، ويقولون : إنها إذا ضُمت فمعنى الكملة : السّخْرة والاستعباد . فمعنى الكلام على مذهب هؤلاء : فاتخذهم أهل الإيمان بي في الدنيا هُزُؤًا ولعبا ، تهزءون بهم ، حتى أنسوكم ذكري . وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والكوفة : «فاتّخذْتُموهُمْ سُخْرِيّا بضم السين ، وقالوا : معنى الكلمة في الضمّ والكسر واحد . وحكى بعضهم عن العرب سماعا لِجّيّ ولُجّىّ ، ودِريّ ، ودُرّيّ ، منسوب إلى الدرّ ، وكذلك كِرسيّ وكُرسيّ وقالوا ذلك من قيلهم كذلك : نظير قولهم في جمع العصا : العِصِيّ بكسر العين ، والعُصّي بضمها قالوا : وإنما اخترنا الضمّ في السّخريّ ، لأنه أفصح اللغتين .
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان ولغتان معروفتان بمعنى واحد ، قد قرأ بكلّ واحدة منهما علماء من القرّاء ، فبأيتهما قرأ القارىء ذلك فمصيب . وليس يُعْرف من فرق بين معنى ذلك إذا كسرت السين وإذا ضمت ، لما ذكرت من الرواية عمن سمع من العرب ما حَكَيت عنه .
ذكر الرواية به عن بعض من فرّق في ذلك بين معناه مكسورة سينه ومضمومة :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : فاتّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّا قال : هما مختلفتان : سِخريّا ، وسُخريّا ، يقول الله : وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضا سِخْرِيّا قال : هذا سِخريّا : يُسَخّرونهم ، والاَخرون : الذين يستهزئون بهم هم «سُخريّا » ، فتلك «سِخريّا » يُسَخرونهم عندك ، فسخّرك : رفعك فوقه والاَخرون : استهزءوا بأهل الإسلام هي «سُخريّا » يَسْخَرون منهم ، فهما مختلفتان . وقرأ قول الله : كُلّما مَرّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إنْ تَسْخَرُوا مِنّا فإنّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كمَا تَسْخَرُونَ وقال : يسخرون منهم كما سخر قوم نوح بنوح ، «اتخذوهم سُخريّا » : اتخذوهم هُزُؤًا ، لم يزالوا يستهزئون بهم .
وقوله : حتى أنْسَوكُمْ ذِكْرِي يقول : لم يزل استهزاؤكم بهم ، أنساكم ذلك من فعلكم بهم ذكري ، فأْلهَاكم عنه . وكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ، كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : حتى أنْسَوْكُمْ ذِكْرِي قال : أنسى هؤلاءِ اللّهَ استهزاؤُهم بهم وضحكُهم بهم . وقرأ : إنّ الّذِينَ أجْرَمُوا كانُوا مِنَ الّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ حتى بلغ : إنّ هَؤُلاءِ لَضَالّونَ .
{ فاتخذتموهم سخريا } هزؤا وقرأ نافع وحمزة والكسائي هنا وفي " ص " بالضم ، وهما مصدر سخر زيدت فيهما ياء النسب للمبالغة ، وعند الكوفيين المكسور بمعنى الهزء والمضموم من السخرة بمعنى الانقياد والعبودية . { حتى أنسوكم ذكري } من فرط تشاغلكم بالاستهزاء بهم فلم تخافوني في أوليائي . { وكنتم منهم تضحكون } استهزاء بهم .
السخري بضم السين في قراءة نافع والكسائي وأبي جعفر وخلف ، وبكسر السين في قراءة الباقين ، وهما وجهان ومعناهما واحد عند المحققين من أيمة اللغة لا فرق بينهما خلافاً لأبي عبيدة والكسائي والفراء الذين جعلوا المكسور مأخوذاً من سخر بمعنى هزأ ، والمضموم مأخوذاً من السخرة بضم السين وهي الاستخدام بلا أجر . فلما قصد منه المبالغة في حصول المصدر أدخلت ياء النسبة كما يقال : الخصوصية لمصدر الخصوص .
وسلط الاتخاذ على المصدر للمبالغة كما يوصف بالمصدر . والمعنى : اتخذتموهم مسخوراً بهم ، فنصب سخرياً } على أنه مفعول ثان ل { اتخذتموهم } .
و { حتى } ابتدائية ومعنى ( حتى ) الابتدائية معنى فاء السببية فهي استعارة تبعية . شبه التسبب القوي بالغاية فاستعملت فيه ( حتى ) . والمعنى : أنكم لهوتم عن التأمل فيما جاء به القرآن من الذكر ، لأنهم سخروا منهم لأجل أنهم مسلمون فقد سخروا من الدين الذي كان اتباعهم إياه سبب السخرية بهم فكيف يرجى من هؤلاء التذكر بذلك الذكر وهو من دواعي السخرية بأهله . وتقدم الكلام على فعل ( سخر ) عند قوله : { فحاق بالذين سخروا منهم } في سورة الأنعام ( 10 ) وقوله : { يسخرون منهم } في سورة براءة ( 79 ) .
فإسناد الإنساء إلى الفريق مجاز عقلي لأنهم سببه ، أو هو مجاز بالحذف بتقدير : حتى أنساكم السخري بهم ذكري . والقرينة على الأول معنوية وعلى الثاني لفظية .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.