" أو يلقى إليه " أى : إلى الرسول صلى الله عليه وسلم " كنز " أى : مال عظيم يغنيه عن التماس الرزق بالأسواق كسائر الناس ، وأصل الكنز ، جعل المال بعضه على بعض وحفظه . من كنزل التمر فى الوعاء ، إذا حفظه . " أو تكون له " صلى الله عليه وسلم " جنة يأكل منها " أى : حديقة مليئة بالأشجار المثمرة ، لكى يأكل منها ونأكل معه من خيرها .
" وقال الظالمون " فضلا من كل ذلك " إن تتبعون " أى : ما تتبعون " إلا رجلا مسحورا " أى : مغلوبا على عقله ، ومصابا بمرض قد أثر فى تصرفاته .
فأنت ترى أن هؤلاء الظالمين قد اشتمل قولهم الذى حكاه القرآن عنهم - على ست قبائح - قصدهم من التفوه بها صرف الناس عن اتباعه صلى الله عليه وسلم .
قال صاحب الكشاف عند تفسيره لهذه الآيات : أى : إن صح أنه رسول الله فما باله حاله كمحالنا " يأكل الطعام " كما نأكل ، ويتردد فى الأسواق لطلب المعاش كما نتردد . يعنون أنه كان يجب أن يكون ملكا مستغنيا عن الأكل والتعيش ، ثم نزلوا عن اقتراحهم أن يكون ملكا إلى ، اقتراح أن يكون إنسانا معه ملك ، فليكن مرفودا بكنزل يلقى إليه من السماء يستظهر به ولا يحتاج إلى تحصيل المعاش . ثم نزلوا فاقتنعوا بأن يكون رجلا له بستان يأكل منه ويرتزق . . . وأراد بالظالمين : إياهم بأعيانهم . وضع الظاهر موضع المضمر ليسجل عليهم بالظلم فيما قالوا . .
وكان من اعتراضاتهم الساذجة الجاهلة أن هذا الرسول يمشي في الأسواق ليكسب رزقه . فهلا كفاه الله ذلك ، وحباه بالمال الكثير عن غير كد ولا عمل : ( أو يلقى إليه كنز ، أو تكون له جنة يأكل منها ) !
والله لم يرد لرسوله [ صلى الله عليه وسلم ] أن يكون له كنز ولا أن تكون له جنة . لأنه أراد أن يكون قدوة كاملة لأمته ؛ ينهض بتكاليف رسالته الضخمة الهائلة ، وهو في الوقت ذاته يسعى لرزقه كما يسعى رجل من أمته . فلا يقولن أحد من أمته يكد لعيشه : لقد كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] مكفي الحاجة ، لا يعاني صراع العيش ، ومن ثم فرغ لعقيدته ورسالته وتكاليفه ، فلم يعوقه عائق مما أعاني . . فها هو ذا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يعمل ليعيش ، ويعمل لرسالته ، فلا أقل من أن ينهض كل أحد من أمته بنصيبه الصغير من تكاليف هذه الرسالة - وقدوته أمامه - ولقد انهال المال بعد ذلك على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كي تتم التجربة من جانبها الآخر وتتم القدوة . فلم يدع هذا المال يشغله أو يعطله ، فكان كالريح المرسلة في جوده ، حتى يستعلي على فتنة المال ، ويرخص من قيمته في النفوس ؛ وكي لا يقولن أحد بعد ذلك : إنما نهض محمد [ صلى الله عليه وسلم ] برسالته ، لأنه عاش فقيرا لا يشغله من المال شاغل ، فها هو ذا المال يأتيه غزيرا وفيرا ، ولكنه يمضي في دعوته كذلك . شأنه يوم أن كان فقيرا .
وما المال ? وما الكنوز ? وما الجنان ? حين يتصل الإنسان الفاني الضعيف بالله الباقي القوي ? ما هذه الأرض وما فيها ? بل ما هذا الكون المخلوق كله ، بعد الاتصال بالله خالق كل شيء ، وواهب الكثير والقليل ? ولكن القوم ما كانوا يوم ذلك يدركون !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالُواْ مَا لِهََذَا الرّسُولِ يَأْكُلُ الطّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ لَوْلآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً * أَوْ يُلْقَىَ إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظّالِمُونَ إِن تَتّبِعُونَ إِلاّ رَجُلاً مّسْحُوراً } .
ذُكر أن هاتين الاَيتين نزلتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كان مشركو قومه قالوا له ليلة اجتماع أشرافهم بظهر الكعبة ، وعرضوا عليه أشياء ، وسألوه الاَيات .
فكان فيما كلّموه به حينئذٍ ، فيما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني محمد بن أبي محمد ، مولى زيد بن ثابت ، عن سعيد بن جُبير ، أو عكرِمة مولى ابن عباس ، عن ابن عباس : أن قالوا له : فإن لم تفعل لنا هذا يعني ما سألوه من تسيير جبالهم عنهم ، وإحياء آبائهم ، والمجيء بالله والملائكة قبيلاً ، وما ذكره الله في سورة بني إسرائيل فخذ لنفسك ، سلْ ربك يبعثْ معك ملَكا يصدّقك بما تقول ويراجعنا عنك ، وسَلْه فيجعل لك قصورا وجنانا وكنوزا من ذهب وفضة ، تغنيك عما نراك تبتغي ، فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه ، حتى نعلم فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولاً كما تزعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما أنا بِفاعِلٍ » فأنزل الله في قولهم : أنْ خُذْ لنفسك ما سألوه أن يأخذ لها : أن يجعل له جنانا وقصورا وكنوزا ، أو يبعث معه ملَكا يصدّقه بما يقول ويردّ عنه من خاصمه . وقالُوا ما لِهَذَا الرّسُولِ يأْكُلُ الطّعامَ ويَمْشِي فِي الأسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرا أوْ يُلْقَى إلَيْهِ كَنْزٌ أوْ تَكُونُ لَهُ جَنّةٌ يأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظّالِمُونَ إنْ تَتّبِعُونَ إلاّ رَجُلاً مَسْحُورا .
فتأويل الكلام : وقال المشركون ما لِهَذا الرّسُولِ : يَعْنون محمدا صلى الله عليه وسلم ، الذي يزعم أن الله بعثه إلينا ، يَأكُلُ الطعَامَ كما نأكل ، ويَمْشِي في أسواقنا كما نمشي . لَوْلاَ أنْزِلَ إلَيهِ يقول : هلا أنزل إليه ملَك إن كان صادقا من السماء ، فَيَكُونَ مَعَه منذرا للناس ، مصدّقا له على ما يقول ، أو يلقى إليه كنز من فضة أو ذهب فلا يحتاج معه إلى التصرّف في طلب المعاش ، أوْ تكون له جنة يقول : أو يكون له بستان يَأكُلُ مِنْها .
واختلف القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين : يَأْكُلُ بالياء ، بمعنى : يأكل منها الرسول . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين : «نَأْكُلُ مِنْها » بالنون ، بمعنى : نأكل من الجنة .
وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه بالياء وذلك للخبر الذي ذكرنا قبل بأن مسألة من سأل من المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسأل ربه هذه الخلال لنفسه لا لهم فإذ كانت مسألتهم إياه ذلك كذلك ، فغير جائز أن يقولوا له : سلْ لنفسك ذلك لنأكل نحن .
وبعدُ ، فإن في قوله تعالى ذكره : تَبَارَكَ الّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرا مِنْ ذَلِكَ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ، دليلاً بيّنا على أنهم إنما قالوا له : اطلب ذلك لنفسك ، لتأكل أنت منه ، لا نحن .
وقوله : وَقال الظّالِمُونَ يقول : وقال المشركون للمؤمنين بالله ورسوله : إنْ تَتّبِعُونَ أيّها القوم ، باتباعكم محمدا إِلاّ رَجُلاً به سحر .
{ أو يلقى إليه كنز } فيستظهر به ويستغني عن تحصيل المعاش . { أو تكون له جنة يأكل منها } هذا على سبيل التنزل أي إن لم يلق إليه كنز فلا أقل من أن يكون له بستان كما للدهاقين والمياسير فيتعيش بريعه ، وقرأ حمزة والكسائي بالنون والضمير للكفار . { وقال الظالمون } وضع { الظالمون } موضع ضميرهم تسجيلا عليهم بالظلم فيما قالوه . { إن تتبعون } ما تتبعون . { إلا رجلا مسحورا } سحر فغلب على عقله ، وقيل ذا سحر وهو الرئة أي بشرا لا ملكا .
{ أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها }
( أو ) للتخيير في دلائل الرسالة في وهَمهم .
ومعنى { يلقى إليه كنز } أي ينزل إليه كنز من السماء ، إذ كان الغنى فتنة لقلوبهم . والإلقاء : الرمي ، وهو هنا مستعار للإعطاء من عند الله لأنهم يتخيلون الله تعالى في السماء .
والكنز تقدم في قوله تعالى : { أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز } في سورة هود ( 12 ) . وجعلوا إعطاء جنة له علامة على النبوءة لأن وجود الجنة في مكة خارق للعادة .
وقرأ الجمهور : { يأكل منها } بياء الغائب ، والضمير المستتر عائد إلى { هذا الرسول } .
وقرأ حمزة والكسائي وخلف { نأكل منها } بنون الجماعة . والمعنى : ليتيقنوا أن ثمرها حقيقةٌ لا سحر .
ذكر أصحاب السير أن هذه المقالة صدرت من كبراء المشركين وفي مجلس لهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ، وأبا سفيان بن حرب ، وأبا البختري ، والأسود بن عبد المطلب ، وزمعة بن الأسود ، والوليد بن المغيرة ، وأبا جهل بن هشام ، وأمية بن خلف ، وعبد الله بن أبي أمية ، والعاصي بن وائل ، ونُبيه بن الحجاج ومنبه بن الحجاج ، والنضر بن الحارث ، وأن هذه الأشياء التي ذكروها تداولها أهل المجلس إذ لم يعين أهل السير قائلها .
قال ابن عطية : وأشاعوا ذلك في الناس فنزلت هذه الآية في ذلك . وقد تقدم شيء من هذا في سورة الإسراء .
وكتبت لام { مال هذا } منفصلة عن اسم الإشارة الذي بعدها في المصحف الإمام فاتبعته المصاحف لأن رسم المصحف سنة فيه ، كما كتب { مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة } في سورة الكهف ( 49 ) ، وكما كتب : { مال الذين كفروا قبلك مهطعين } في سورة سأل سائل ( 36 ) ، وكما كتب : { فمال هؤلاء القوم } في سورة النساء ( 78 ) . ولعل وجه هذا الانفصال أنه طريقة رسم قديم كانت الحروف تكتب منفصلاً بعضها عن بعض ولا سيما حروف المعاني فعاملوا ما كان على حرف واحد معاملة ما كان على حرفين فبقيت على يد أحد كتّاب المصحف أثارة من ذلك ، وأصل حروف الهجاء كلها الانفصال ، وكذلك هي في الخطوط القديمة للعرب وغيرهم . وكان وصل حروف الكلمة الواحدة تحسيناً للرسم وتسهيلاً لتبادر المعنى ، وأما ما كان من كلمتين فوصله اصطلاح . وأكثر ما وصلوا منه هو الكلمة الموضوعة على حرف واحد مثل حروف القسم أو كالواحد مثل ( ال ) .
{ وَقَالَ الظالمون إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً }
الظالمون : هم المشركون ، فغير عنوانهم الأول إلى عنوان الظلم وهم هم تنبيهاً على أن في هذا القول اعتداء على الرسول بنبزه بما هو بريء منه وهم يعلمون أنه ليس كذلك فظلمهم له أشد ظلم ، و صلى الله عليه وسلم .
ذكر الماوردي : أن قائل : { إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً } هو عبد الله بن الزِّبَعْرَى ، أي هو مبتكر هذا البهتان وإنما أسند القول إلى جميع الظالمين لأنهم تلقفوه ولهجوا به .
والمسحور : الذي أصابه السحر ، وهو يورث اختلال العقل عندهم ، أي ما تتبعون إلا رجلاً أصابه خلل العقل فهو يقول ما لا يقول مثله العقلاء .
وذِكْر { رجلاً } هنا لتمهيد استحالة كونه رسولاً لأنه رجل من الناس . وهذا الخطاب خاطبوا به المسلمين الذين اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم .