ثم بين - سبحانه - سوء مصيرهم بسبب أقوالهم الباطلة ، وأفعالهم القبيحة ، فقال - تعالى - : { الذين يُحْشَرُونَ على وُجُوهِهِمْ إلى جَهَنَّمَ } أى : يحشرون ماشين على وجوههم أو يسحبون عليها إلى جهنم ، بسبب كفرهم وعنادهم .
{ أولئك } الذين نفعل بهم ذلك { شَرٌّ مَّكَاناً } أى : منزلا ومكانا ومصيرا لهم هو جهنم وأولئك - أيضا - هم أضل الناس طريقا عن طريق الحق والرشاد ، ولذا كانت طريقهم لا توصلهم إلا إلى النار وبئس القرار .
قال الإمام ابن كثير : وفى الصحيح عن أنس : أن رجلا سأل النبى صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة ؟ فقال : إن الذى أمشاه على رجليه قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة .
وقوله : الّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمَ أُوَلَئِكَ شَرّ مَكانا ، يقول تعالى ذكره : لنبيه : هؤلاء المشركون يا محمد ، القائلون لك : " لَوْلا نُزّلَ هَذَا القُرآنُ جُمْلَةً واحِدة " ، ومن كان على مثل الذي هم عليه من الكفر بالله ، الذين يحشرون يوم القيامة على وجوههم إلى جهنم ، فيساقون إلى جهنم شرّ مستقرّا في الدنيا والاَخرة من أهل الجنة في الجنة ، وأضلّ منهم في الدنيا طريقا .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد " الّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إلى جَهَنّمَ " قال : الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم أُولَئِكَ شَرّ مَكانا من أهل الجنة وأضَلّ سَبِيلاً قال : طريقا .
حدثني محمد بن يحيى الأزدي ، قال : حدثنا الحسين بن محمد ، قال : حدثنا شيبان ، عن قَتادة ، قوله الّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إلى جَهَنّمَ قال : حدثنا أنس بن مالك أن رجلاً قال : يا رسول الله كيف يحشر الكافر على وجهه ؟ قال : «الّذِي أمْشاهُ عَلى رِجْلَيْهِ قادِرٌ أنْ يُمْشِيَهُ عَلى وَجْهه » .
حدثنا أبو سفيان الغنوي يزيد بن عمرو ، قال : حدثنا خلاد بن يحيى الكوفي ، قال : حدثنا سفيان الثوري ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، قال : أخبرني من سمع أنس بن مالك يقول : جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : كيف يحشرهم على وجوههم ؟ قال : «الّذِي يَحْشُرُهُمْ عَلى أرّجُلِهِمْ قادِرٌ بأنْ يَحْشُرَهُمْ عَلى وُجُوههِمْ » .
حدثنا عبيد بن محمد الورّاق ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي داود ، عن أنس بن مالك ، قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف يُحشر أهل النار على وجوههم ؟ فقال : «إنّ الّذِي أمْشاهُمْ عَلى أقْدامِهِمْ قادِرٌ عَلى أنْ يُمْشِيَهُمْ عَلى وُجُوهِهِمْ » .
حدثني أحمد بن المقدام قال : حدثنا حزم ، قال : سمعت الحسن يقول : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الاَية : " الّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إلى جَهَنّمَ " فقالوا : يا نبي كيف يمشون على وجوههم ؟ قال : «أرأيْتَ الّذِي أمْشاهُمْ عَلى أقْدامِهِمْ ألَيْسَ قادِرا أنْ يُمْشِيَهُمْ عَلى وُجوهِهم » .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا منصور بن زاذان ، عن علي بن زيد بن جدعان ، عن أبي خالد ، عن أبي هريرة ، قال : «يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف : صنف على الدوابّ ، وصنف على أقدامهم ، وصنف على وجوههم » ، فقيل : كيف يمشون على وجوههم ؟ قال : «إن الذي أمشاهم على أقدامهم ، قادر أن يمشيهم على وجوههم » .
{ الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم } أي مقلوبين أو مسحوبين عليها ، أو متعلقة قلوبهم بالسفليات متوجهة وجوههم إليها . وعنه عليه الصلاة والسلام " يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف ، صنف على الدواب وصنف على الأقدام وصنف على الوجوه " وهو ذم منصوب أو مرفوع أو مبدأ خبره . { أولئك شر مكانا وأضل سبيلا } والمفضل عليه هو الرسول صلى الله عليه وسلم على طريقة قوله تعالى : { قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه } كأنه قيل إن حاملهم على هذه الأسئلة تحقير مكانه وتضليل سبيله ولا يعلمون حالهم ليعلموا أنهم شر مكانا وأضل سبيلا ، وقيل إنه متصل بقوله { أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا } ووصف السبيل بالضلال من الإسناد المجازي للمبالغة .
ثم توعد الكفار بما ينزل بهم يوم القيامة من الحشر على وجوههم إلى النار وذهب الجمهور ، إلى أن هذا المشي على الوجوه حقيقة ، وروي في ذلك من طريق أنس بن مالك حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له رجل : " يا رسول الله كيف يقدرون على المشي على وجوههم ؟ " ، وقال «إن الذي أقدرهم على المشي على أرجلهم قادر أن يمشيهم على وجوههم »{[8825]} ، وقالت فرقة المشي على الوجوه استعارة للذلة المفرطة والهوان والخزي وقوله تعالى : { شر مكاناً } القول فيه كالقول في قوله { خير مستقراً } [ الفرقان : 24 ] .
استئناف ابتدائي لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم ولوعيد المشركين وذمهم .
والموصول واقعٌ موقع الضمير كأنه قيل : هُم يحشرون على وجوههم ، فيكون الضمير عائداً إلى الذين كفروا من قوله : { وقال الذين كفروا لولا نزّل عليه القرآن جملة واحدة } [ الفرقان : 32 ] إظهاراً في مقام الإضمار لتحصيل فائدة أن أصحاب الضمير ثبتَ لهم مضمون الصلة ، وليبنى على الصلة موقع اسم الإشارة ، ومقتضى ظاهر النظم أن يقال : ولا يأتونك بِمَثَل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً ، هُم شرّ مكاناً وأضل سبيلاً ، ونحشرهم على وجوههم إلى جهنم ، كما قال في سورة الإسراء ( 97 ) { ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم } عقب قوله : { وما منَع الناسَ أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلاّ أن قالوا أبعَث اللَّه بشراً رسولاً } [ الإسراء : 94 ] ويعلم من السياق بطريق التعريض أن الذين يحشرون على وجوههم هم الذين يأتون بالأمثال تكذيباً للنبيء صلى الله عليه وسلم وإذ كان قصدهم مما يأتون به من الأمثال تنقيص شأن النبي ذكروا بأنهم أهل شر المكان وضلاللِ السبيل دون النبي صلى الله عليه وسلم فالموصول مبتدأ واسم الإشارة خبر عنه .
وقد تقدم معنى { يحشرون على وجوههم } في سورة الإسراء ( 97 ) عند قوله { ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم . وتقدم ذكر الحديث في السُّؤَال عن كيفَ يمشون على وجوههم .
وشّر : اسم تفضيل . وأصله أشرّ وصيغتا التفضيل في قوله { شَرّ } ، و{ أضلّ } مستعملتان للمبالغة في الاتصاف بالشر والضلال كقوله { قال أنتم شَرّ مكاناً } [ يوسف : 77 ] في جواب قول إخوة يوسف { إنْ يسرق فقد سرق أخ له من قبل } [ يوسف : 77 ] .
وتعريف جزأي الجملة يفيد القصر وهو قصر للمبالغة بتنزيلهم منزلة من انحصر الشر والضلال فيهم . وروي عن مقاتل أن الكفار قالوا للمسلمين : هم شر الخلق ، فنزلت هذه الآية فيكون القصر قصر قلب ، أي هم شر مكاناً وأضل سبيلاً لا المسلمون ، وصيغتا التفضيل مسلوبتا المفاضلة على كلا الوجهين .
والمكان : المقَر . والسبيل : الطريق ، مكانهم جهنم ، وطريقهم الطريق الموصل إليها وهو الذي يحشرون فيه على وجوههم .
والإتيان باسم الإشارة عقب ما تقدم للتنبيه على أن المشار إليهم أحرِياء بالمكان الأشرّ والسبيل الأضل ، لأجل ما سَبق من أحوالهم التي منها قولهم { لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة } [ الفرقان : 32 ] .
و { سبيلاً } تمييز محوَّل عن الفاعل ، فأصله : وضل سبيلُهم . وإسناد الضلال إلى السبيل في التركيب المحول عنه مجازٌ عقلي لأن السبيل سبب ضلالهم .