الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{ٱلَّذِينَ يُحۡشَرُونَ عَلَىٰ وُجُوهِهِمۡ إِلَىٰ جَهَنَّمَ أُوْلَـٰٓئِكَ شَرّٞ مَّكَانٗا وَأَضَلُّ سَبِيلٗا} (34)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وقوله:"الّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمَ أُوَلَئِكَ شَرّ مَكانا"، يقول تعالى ذكره: لنبيه: هؤلاء المشركون يا محمد، القائلون لك: "لَوْلا نُزّلَ هَذَا القُرآنُ جُمْلَةً واحِدة"، ومن كان على مثل الذي هم عليه من الكفر بالله، الذين يحشرون يوم القيامة على وجوههم إلى جهنم، فيساقون إلى جهنم شرّ مستقرّا في الدنيا والآخرة من أهل الجنة في الجنة، وأضلّ منهم في الدنيا طريقا...

حدثنا عبيد بن محمد الورّاق، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي داود، عن أنس بن مالك، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يُحشر أهل النار على وجوههم؟ فقال: «إنّ الّذِي أمْشاهُمْ عَلى أقْدامِهِمْ قادِرٌ عَلى أنْ يُمْشِيَهُمْ عَلى وُجُوهِهِمْ».

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

يشبه أن يكون ذكر هذا على مقابلة سبقت، وإلا على الابتداء لا يستقيم ذكره. فجائز أن يكون ذكره على مقابلة قوله: {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا} الآية [الفرقان: 42] هذا ذكر مقام أهل الجنة. فذكر مقابل ذلك مكان أهل النار، فقال: {يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا} أي شر مكانا في الآخرة، وأضل سبيلا في الدنيا.

أو أن يكون مقابل قوله: {قال الذين كفروا للذين آمنوا أيُّ الفريقين خيرٌ مقاما وأحسن ندِيّا}؟ [مريم: 73] فقال: {الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا} من الذين آمنوا، بل مقامهم الجنة؛ أعني المؤمنين، ومقام الكفرة النار، فهم شر مكانا منهم.

تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :

(أولئك شر مكانا) أي: شر مكانة ومنزلة.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

ثم توعد الكفار بما ينزل بهم يوم القيامة من الحشر على وجوههم إلى النار وذهب الجمهور، إلى أن هذا المشي على الوجوه حقيقة...

وقالت فرقة المشي على الوجوه استعارة للذلة المفرطة والهوان والخزي..

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما أنتجت هذه الآيات كلها أنهم معاندون لربهم، وأنهم يريدون بهذه الأسئلة أن يضللوا سبيله، ويحتقروا مكانته، ويهدروا منزلته، علم قطعاً أنه يعمر بهم دار الشقاء، وكان ذلك أدل دليل على أنهم أعمى الناس عن الطرق المحسوسة، فضلاً عن الأمثال المعلومة، والتمثيل للمدارك الغامضة، وأنهم أحقر الناس لأنه لا ينتقص الأفاضل إلا ناقص، ولا يتكلم الإنسان إلا فيمن هو خير منه، قال معادلاً لقوله: {أصحاب الجنة يومئذ خير} [الفرقان: 24] واصفاً لما تقدم أنه أظهره موضع الإضمار من قوله {الذين كفروا} [الفرقان: 32] {الذين يحشرون} أي يجمعون قهراً ماشين مقلوبين {على وجوههم} أو مسحوبين {إلى جهنم} كما أنهم في الدنيا كانوا يعملون ما كأنهم معه لا يبصرون ولا تصرف لهم في أنفسهم، تؤزهم الشياطين أزاً، فإن الآخرة مرآة الدنيا، مهما عمل هنا رئي هناك، كما أن الدنيا مزرعة الآخرة، مهما عمل فيها جنيت ثمرته هناك.

" روى البخاري عن أنس رضي الله عنهما أن رجلاً قال: يا نبي الله! كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال: "أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة؟ قال قتادة: يعني الراوي عن أنس: بلى وعزة ربنا".

ولما وصف المتعنتين في أمر القرآن بهذا الوصف، استأنف الإخبار بأنهم متصفون بما ألزموا به من أن الإتيان بالقرآن مفرقاً وضع للشيء في غير موضعه فقال:

{أولئك} أي البعداء البغضاء {شر} أي شر الخلق {مكاناً وأضل سبيلاً*} حيث عموا عن طريق الجنة التي لا أجلى منها ولا أوسع، وسلكوا طريق النار التي لا أضيق منه ولا أوعر، وعموا عن أن إنزال القرآن نجوماً أولى لما تقدم من اللطائف وغيرها مما لا يحيط به إلا الله تعالى،" وسبيلاً "تمييز محول عن الفاعل أصله: ضل سبيلهم، وإسناد الضلال إليه من الإسناد المجازي.

مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير لابن باديس 1359 هـ :

رفعوا وجوههم في الدنيا عن السجود لله، فأذل الله تلك الوجوه فمشوا عليها في المحشر. ورفعوا رؤوسهم كبرا عن الحق، فنكسها الله يوم القيامة. ومشوا في طريق النظر و الاستدلال مشيا مقلوبا، فمشوا في الآخرة مشيا مقلوبا. فكان ما نالهم من سوء تلك الحال جزاء وفاقا لما أتوا من قبيح الأعمال، وما ربك بظلام للعبيد.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وتنتهي هذه الجولة بمشهدهم يحشرون على وجوههم يوم القيامة، جزاء تأبيهم على الحق، وانقلاب مقاييسهم ومنطقهم في جدلهم العقيم: (الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم. أولئك شر مكانا وأضل سبيلا).. ومشهد الحشر على الوجوه فيه من الإهانة والتحقير والانقلاب، ما يقابل التعالي والاستكبار، والإعراض عن الحق. وهو يضع هذا المشهد أمام الرسول [صلى الله عليه وسلم] تعزية له عما يلقاه منهم. ويضعه أمامهم تحذيرا لهم مما ينتظرهم. وهو مشهد مجرد عرضه يذل كبرياءهم ويزلزل عنادهم، ويهز كيانهم. وقد كانت هذه الإنذارات تهزهم هزا، ولكنهم يتحاملون على أنفسهم ويظلون معاندين.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

استئناف ابتدائي لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم ولوعيد المشركين وذمهم. والموصول واقعٌ موقع الضمير كأنه قيل: هُم يحشرون على وجوههم، فيكون الضمير عائداً إلى الذين كفروا من قوله: {وقال الذين كفروا لولا نزّل عليه القرآن جملة واحدة} [الفرقان: 32] إظهاراً في مقام الإضمار لتحصيل فائدة أن أصحاب الضمير ثبتَ لهم مضمون الصلة، وليبنى على الصلة موقع اسم الإشارة، ومقتضى ظاهر النظم أن يقال: ولا يأتونك بِمَثَل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً، هُم شرّ مكاناً وأضل سبيلاً، ونحشرهم على وجوههم إلى جهنم، كما قال في سورة الإسراء (97) {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم} عقب قوله: {وما منَع الناسَ أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلاّ أن قالوا أبعَث اللَّه بشراً رسولاً} [الإسراء: 94].

ويعلم من السياق بطريق التعريض أن الذين يحشرون على وجوههم هم الذين يأتون بالأمثال تكذيباً للنبيء صلى الله عليه وسلم وإذ كان قصدهم مما يأتون به من الأمثال تنقيص شأن النبي ذكروا بأنهم أهل شر المكان وضلالِ السبيل دون النبي صلى الله عليه وسلم، فالموصول مبتدأ واسم الإشارة خبر عنه...

وشّر: اسم تفضيل. وأصله أشرّ وصيغتا التفضيل في قوله {شَرّ}، و {أضلّ} مستعملتان للمبالغة في الاتصاف بالشر والضلال كقوله {قال أنتم شَرّ مكاناً} [يوسف: 77] في جواب قول إخوة يوسف {إنْ يسرق فقد سرق أخ له من قبل} [يوسف: 77].

وتعريف جزأي الجملة يفيد القصر وهو قصر للمبالغة بتنزيلهم منزلة من انحصر الشر والضلال فيهم. وروي عن مقاتل أن الكفار قالوا للمسلمين: هم شر الخلق، فنزلت هذه الآية فيكون القصر قصر قلب، أي هم شر مكاناً وأضل سبيلاً لا المسلمون،

وصيغتا التفضيل مسلوبتا المفاضلة على كلا الوجهين. والمكان: المقَر. والسبيل: الطريق، مكانهم جهنم، وطريقهم الطريق الموصل إليها وهو الذي يحشرون فيه على وجوههم. والإتيان باسم الإشارة عقب ما تقدم للتنبيه على أن المشار إليهم أحرِياء بالمكان الأشرّ والسبيل الأضل، لأجل ما سَبق من أحوالهم التي منها قولهم

{لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة} [الفرقان: 32].

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ} هؤلاء الذين يثيرون الغبار في أجواء الرسالات، ويحاربون رسل الله وأولياءه، من دون أن يملكوا أيّة حجةٍ على ذلك كله في إثارتهم وحربهم، {أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً} وأيّ مكان أكثر شرّاً من جهنم في ما تمثله من خزي وعارٍ وسوء مصير وعذاب أمام الخلائق كلهم، وأيّ سبيل أضلّ من السبيل الذي يؤدّي إلى النار حيث يعيش الإنسان الشقاء الدائم الذي لا سعادة بعده، وأيّ ضلال أكثر بعداً من الضلال الذي يبتعد فيه الإنسان عن الله وعن لطفه ورحمته وعفوه، فلا يأوي إلى رضوانه؟! وقد جاء الخلاف بين المفسرين حول المراد من الحشر على وجوههم، هل هو بمعناه الظاهر، وهو الانتقال بهم وهم مكبوبون على وجوههم، أو بمعنى السحب، أو بمعنى الانتقال منكوسين، أو كناية عن فرط الذل والهوان، أو غير ذلك من حمل اللفظ على بعض الأمور المعنوية، وذلك بمعنى أنهم يحشرون وقلوبهم متعلقة بالسفليات من الدنيا وزخارفها، متوجهة وجوههم إليها؟ وليس هناك ما يمنع عن حمله على معناه الظاهر الذي يجسد بحسب طبيعته الذل والهوان، والله العالم.

وهكذا كان الموقف من الرسالة والرسول بعيداً عن خط التوازن في التصور والحكم من خلال الخصوصيات الذاتية التي أثاروها حوله، ولذلك كانت نتيجته العذاب في جهنم. وإذا كان هؤلاء المشاغبون في موقفهم من القرآن، ممن يؤمنون بالرسل والرسالات السابقة، كما قد يوحي به كلامهم، فإن عليهم أن يستحضروا موسى وكتابه، وغيره من الأنبياء، ليعرفوا أن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) لم يكن بدعاً من الرسل، وأن كتابه لم يكن بدعاً من الكتب المنزلة من الله.