وبعد أن بين - سبحانه - مظاهر نعمه عن طريق الزمان - الليل والنهار - أتبع ذلك ببيان نعمه عن طريق المكان - الأرض والسماء - فقال : { الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض قَرَاراً } أى : جعل الأرض مكانا لاستقراركم عليها ، والسعى فيها .
{ والسمآء بِنَآء } أى : وجعل لكم السماء بمنزلة القبة المبنية المضروبة فوق رءوسكم فأنتم ترونها بأعينكم مرفوعة فوقكم بغير عمد .
قال الآلوسى قوله : { والسمآء بِنَآء } أى : قبة ، ومنه أبنية العرب لقبابهم التى تضرب . وإطلاق ذلك على السماء على سبيل التشبيه ، وهو تشبيه بليغ . وفيه إشارة لكرويتها . وهذا بيان لفضله - تعالى - المتعلق بالمكان بعد بيان فضله المتعلق بالزمان .
وقوله : { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } بيان لفضله - تعالى - المتعلق بذواتهم . أى : جعل لكم الأرض مستقرا ، والسماء بناء ، وصور أشكالكم فى أحسن تقويم . وأجمل هيئة . كما قال - تعالى - : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } { وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطيبات } أى : ورزقكم من الرزق الطيب الحلال المستلذ .
{ ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين } أى : ذلكم الذى أعطاكم تلك النعم المتعلقة بزمانكم ، ومكانكم ، وذواتكم ، ومطعمكم ومشربكم . هو الله ربكم الذى لا تولاكم بتربيته ورعايته فى جميع أطوار حياتكم فتبارك الله - تعالى - وتعاظم فى ذاته وفى صفاته ، فهو رب العالمين ومالك أمرهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { اللّهُ الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ قَرَاراً وَالسّمَآءَ بِنَآءً وَصَوّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مّنَ الطّيّبَاتِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبّكُمْ فَتَبَارَكَ اللّهُ رَبّ الْعَالَمِينَ * هُوَ الْحَيّ لاَ إِلََهَ إِلاّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ الْحَمْدُ للّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ } .
يقول تعالى ذكره : اللّهُ الذي له الألوهة خالصة أيها الناس الّذي جَعَلَ لَكُمْ الأرْضَ التي أنتم على ظهرها سكان قَرَارا تستقرون عليها ، وتسكنون فوقها ، والسّماءَ بِناءً : بناها فرفعها فوقكم بغير عمد ترونها لمصالحكم ، وقوام دنياكم إلى بلوغ آجالكم وَصَوّرَكمْ فَأحْسَنَ صُوَرَكُمْ يقول : وخلقكم فأحسن خلقكم وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطّيّباتِ يقول : ورزقكم من حلال الرزق ، ولذيذات المطاعم والمشارب . وقوله : ذَلِكُمُ اللّهُ رَبّكُمْ يقول تعالى ذكره : فالذي فعل هذه الأفعال ، وأنعم عليكم أيها الناس هذه النعم ، هو الله الذي لا تنبغي الألوهة إلا له ، وربكم الذي لا تصلح الربوبية لغيره ، لا الذي لا ينفع ولا يضرّ ، ولا يخلق ولا يرزق فَتَبارَكَ اللّهُ رَبّ العَالمِينَ يقول : فتبارك الله مالك جميع الخلق جنهم وإنسهم ، وسائر أجناس الخلق غيرهم هُوَ الحَيّ يقول : هو الحيّ الذي لا يموت ، الدائم الحياة ، وكل شيء سواه فمنقطع الحياة غير دائمها لا إلَهَ إلاّ هُوَ يقول : لا معبود بحقّ تجوز عبادته ، وتصلح الألوهة له إلا الله الذي هذه الصفات صفاته ، فادعوه أيها الناس مخلصين له الدين ، مخلصين له الطاعة ، مفردين له الألوهة ، لا تشركوا في عبادته شيئا سواه ، من وثن وصنم ، ولا تجعلوا له ندا ولا عِدلاً الحَمْدُ للّهِ رَبّ العَالمِينَ يقول : الشكر لله الذي هو مالك جميع أجناس الخلق ، من مَلك وجنّ وإنس وغيرهم ، لا للاَلهة والأوثان التي لا تملك شيئا ، ولا تقدر على ضر ولا نفع ، بل هو مملوك ، إن ناله نائل بسوء لم يقدر له عن نفسه دفعا .
وكان جماعة من أهل العلم يأمرون من قال : لا إله إلا الله ، أن يتبع ذلك : الحَمْدُ لِلّهِ رَبّ العَالمِينَ تأولاً منهم هذه الاَية ، بأنها أمر من الله بقيل ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عليّ بن الحسن بن شقيق ، قال : سمعت أبي ، قال : أخبرنا الحسين بن واقد ، قال : حدثنا الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : من قال لا إله إلا الله ، فليقل على إثرها : الحمد لله رب العالمين ، فذلك قوله : فادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ الحَمْدُ لِلّهِ رَبّ العَالَمِينَ » .
حدثنا عبد الحميد بن بيان السكري قال : حدثنا محمد بن يزيد ، عن إسماعيل ، عن سعيد بن جبير ، قال : «إذا قال أحدكم : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، فليقل : الحمد لله ربّ العالمين ، ثم قال : فادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ الحَمْدُ لِلّهِ رَبّ العَالَمِينَ .
حدثني محمد بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، قال : حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن سعيد بن جُبير أنه كان يستجب إذا قال : لا إله إلا الله ، يتبعها الحمد لله ، ثم قرأ هذه الاَية : هُوَ الحَيّ لا إلَهَ إلاّ هُوَ فادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ الحَمْدُ لِلّهِ رَبّ العَالَمِينَ .
حدثني محمد بن عمارة ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن عامر ، عن سعيد بن جبير ، قال : إذ قال أحدكم لا إله إلا الله وحده ، فليقل بأثرها : الحمد لله رب العالمين ، ثم قرأ فادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ الحَمْدُ لِلّهِ رَبّ العَالَمِينَ } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.