محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَۖ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِۦ مُلۡتَحَدٗا} (27)

وقوله تعالى :

{ وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا ( 27 ) } .

{ وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ } أي بتبليغ ما فيه . ومنه ما أوحي إليك من نبأ الفتية ، فإنه الحق الذي لا يحتاج معه إلى استفتاء فيه .

قال القاشاني : يجوز أن تكون ( من ) لابتداء الغاية . و ( الكتاب ) هو اللوح الأول المشتمل على كل العلوم الذي منه أوحي إلى من أوحي إليه ، وأن تكون بيانا لما أوحي { لا مبدل لكلماته } أي لا مغير لها ولا محرف ولا مزيل .

قال القاشاني : { كلماته } التي هي أصول التوحيد والعدل وأنواعهما .

وقصده دفع ما يرد من وقوع نسخ بعض الشرائع السابقة باللاحقة وتبديلها بها . فأشار إلى أن النسخ إنما هو في الفروع لا الأصول .

والأظهر في معنى الآية : أنه لا أحد سواه يبدل حكمه كقوله : { لا معقب لحكمه } وأما هو سبحانه ، فهو فعال لما يريد { وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا } أي ملجأ .

/ وذهب ابن جرير في تفسير هذه الآية مذهبا دقيقا قال : يقول تعالى لنبيه واتبع ما أنزل إليك من كتاب ربك هذا ، ولا تتركن تلاوته واتباع ما فيه من أمر الله ونهيه والعمل بحلاله وحرامه ، فتكون من الهالكين . وذلك أن مصير من خالفه وترك إتباعه يوم القيامة ، إلى جهنم { لا مبدل لكلماته } يقول لا مغير لما أوعد بكلماته التي أنزلها عليك ، أهل معاصيه والعاملين بخلاف هذا الكتاب الذي أوحيناه إليك . وقوله { وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا } يقول وإن أنت لم تتل ما أوحي إليك من كتاب ربك فتتبعه وتأتم به ، فنالك وعيد الله الذي أوعد فيه المخالفين حدوده ، لن تجد من دون الله موئلا تئل إليه ، ومعدلا تعدل عنه إليه . لأن قدرة الله محيطة بك وبجميع خلقه ، لا يقدر أحد منهم على الهرب من أمر أراد به . انتهى .

تنبيه :

لهؤلاء الفتية أصحاب الكهف ذكر في تواريخ المسيحيين ، وعيد سنوي يقام تذكارا لهم ، في اليوم السابع والعشرين من شهر تموز . لكونهم اضطهدوا من قبل الأمراء اليونانيين ، لإيمانهم بالله تعالى وحده ودخولهم في الملة المسيحية ورفضهم الوثنية التي كان عليها اليونان . وقد رأيت في كتاب ( الكنز الثمين في أخبار القديسين ) ترجمة عن أحوالهم واسعة تحت عنوان ( فيما يخص السبعة القديسين الشهداء الذين من أفسس ) نقتطف منها ما يأتي ، دحضا لدعوى من يفتري أن نبأهم لا يعرف أصلا ، كما قرأته في بعض كتب الملحدين .

قال صاحب الترجمة : هؤلاء الشهداء السبعة كانوا إخوة بالجسد . وأسماؤهم : مكسيميانوس ومالخوس ، ومرتينيانوس ، وديونيسوس ، ويوحنا ، وسارابيون . ثم قسطنطين . هؤلاء الشبان قربوا حياتهم ضحية من أجل الإيمان بالمسيح ، بالقرب من مدينة أفسس ، نحو سنة ( 252 ) مسيحية . في زمن الاضطهاد القاسي الذي صنعه ضد المسيحيين ، الملك داكيوس .

وقد أجلهم المسيحيون كشهداء حقيقيين . فيقام لهم في الكنائس مدائح تنشر فيها صفاتهم الفاضلة يوم استشهادهم ثمة ، في اليوم الرابع من شهر آب ، المختص بتذكار الأعجوبة التي بواسطتها قد ظهرت أجسادهم المقدسة في المغارة القريبة من أفسس .

ثم قال : وأما نوع استشهادهم فليس بمعروف . لأن أعمالهم الجهادية في سبيل الإيمان لم توجد مدونة في التواريخ الكنائسية المدققة . بل إن المؤكد عنهم أن استشهادهم كان في زمن الملك داكيوس ، حذاء مدينة أفسس . حيث وجدت فيما بعد أجسادهم في مغارة ليست بعيدة من أهل هذه المدينة .

ثم قال : فالبعض من الكتبة الكنائسيين يرتؤون بأنه لما اختفى هؤلاء الفتية في تلك المغارة هربا من الاضطهاد ، عرف أمرهم فأغلق عليهم باب المغارة بصخور عظيمة . وهكذا ماتوا فيها . وغيرهم يرون أنهم قتلوا من أجل الإيمان في مدينة أفسس . وبعد موتهم نقلت أجسادهم ودفنت في المغارة المذكورة . وآخرون يظنون أنهم حبسوا أنفسهم أحياء باختبائهم في المغارة المذكورة ليموتوا برضاهم ، هربا من خطر أنواع العذاب القاسية التي كان يتكبدها المسيحيون في ذاك الاضطهاد الوحشي .

ثم قال : فكيفما كان نوع استشهاد هؤلاء السبعة ، فقد تحقق أن الله أراد أن يكرمهم بإظهار أجسادهم بواسطة رؤيا سماوية . وذلك في 4 آب سنة 447 في زمن ولاية الملك ( ثاوضوسيوش الصغير ) .

ثم قال : ودرج على أفواه الشعوب : أن هؤلاء الفتية ، بعد أن أغلق عليهم باب المغارة بأمر داكيوس الملك ، لم يموتوا ضمنها ، لا موتا طبيعيا ولا قسريا ، بل رقدوا رقاد النوم مدة ، نحو مائتي سنة . ثم نهضوا من نومهم الطبيعي سنة ( 447 ) .

ثم قال : وقد ذهب بعض المؤرخين إلى تأويل ما روي من رقادهم الطويل ، بأنه لما ظهرت أجسادهم سالمة من البلى ، بعد أن دفنوا في ذلك الغار أحياء أو أمواتا ، بواسطة خارقة ما ، ونقلت من مدفنهم الذي كانوا فيه ، اعتبرت تلك الأجساد كأنها صودفت مستيقظة من نوم لذيذ كانت راقدة فيه . إلا أن الذي يبطل هذا التأويل ما نقله بعد عن القنداق ، من أنهم نهضوا بعد أن رقدوا عدة من السنين وانتصروا على ضلال أولئك الوثنيين . وبظهورهم كذلك أيدوا حقية إيمانهم ووطدوا المؤمنين في رجاء القيامة في الحياة الأبدية .

هذا ما اقتطفناه من كتاب ( الكنز الثمين ) وبه تعلم ما لدى أهل الكتاب المسيحيين من الاختلاف فيهم ، الذي أشار له القرآن الكريم . وقد جاء في ( تاريخ الكنيسة ) : إن أقوال وأعمال الشهداء في المسيحية لم ينقل منها إلا القليل . لأن أكثرها أحرق بالنار مدة العشر سنوات . من سنة ( 293 إلى 303 ) وإن من القرن الثامن فصاعدا ، اعتنى الروم واللاتيون بجمع حياة الشهداء الأولين . غير أن الأكثر حذاقة ، حتى الذين في حضن الكنيسة الرومانية ، يسلمون الآن بأن أكثر الأخبار أحاديث ملفقة ، غراما بالبلاغة . وجداول القديسين المسماة ( أقوال الشهداء ) ليست بأكثر ثقة . التي ألفها أناس جهلاء غير قادرين ، أو دخلها منذئذ أكاذيب . فهذا القسم من تاريخ الكنيسة إذ ذاك مظلم خال من النور . انتهى كلامه بالحرف .

وفيه ميل إلى النصفة من عدم الثقة بما لديهم من هذا الخلاف الذي حسم مادته ، واقتلعه من جذوره ، القرآن الكريم .

قال الحافظ ابن كثير عند قوله تعالى : { وإذ قلنا للملائكة } الآية الآتية ، معتذرا عما نقله ، ما مثاله : روي في هذا آثار كثيرة عن السلف . وغالبها من الإسرائيليات التي تنقل لينظر فيها . والله أعلم بحال الأخبار المتقدمة . لأنها لا تكاد تخلو من تبديل وزيادة ونقصان . وقد وضع فيها أشياء كثيرة . وليس لهم من الحفاظ المتقنين الذين ينفون عنها تحريف الغالين وانتحال المبطلين . كما لهذه الأمة من الأئمة والعلماء ، والسادة والأتقياء ، والجهابذة النقاد ، والحفاظ الذين دونوا الحديث وحرروه ، وبينوا صحيحه من حسنه ومنكره وموضوعه ومتروكه . وعرفوا الوضاعين والكذابين والمجهولين من أصناف الرجال . كل ذلك صيانة للجانب النبوي والمقام المحمدي خاتم الرسل وسيد البشر ، أن ينسب إليه كذب أو يحدث عنه بما ليس منه . فرضي الله عنهم وأرضاهم . وجعل جنات الفردوس مأواهم . وقد فعل .