بعد أن قدّم وصفاً رهيباً ليوم القيامة ، وكيف تزول الأرضُ والجبال عن مواقعها وتُدكّ وتنشقّ السماء ، وتقفُ الملائكة على جوانبها ، ويوضع العرشُ ، ويُفتح حسابُ البشر وفي ذلك اليوم لا يخفى على الله شيء ، بعد هذا كله أتى بذِكر صورتين متقابلتين من أحوالِ البشَر ، وهم : السعداءُ أصحاب اليمين ، والأشقياءُ أصحاب الشمال . فأما السعداء فإنهم يتلقَّون كتابَهم بأيمانهم ، ويغدُون مسرورين فرحين ، يعرِضون كُتبَهم على الناس ليقرأوها .
{ 19 - 24 } { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ }
وهؤلاء هم أهل السعادة يعطون كتبهم التي فيها أعمالهم الصالحة بأيمانهم تمييزا لهم وتنويها بشأنهم ورفعا لمقدارهم ، ويقول أحدهم عند ذلك من الفرح والسرور ومحبة أن يطلع الخلق على ما من الله عليه به من الكرامة : { هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ } أي : دونكم كتابي فاقرأوه فإنه يبشر بالجنات ، وأنواع الكرامات ، ومغفرة الذنوب ، وستر العيوب .
والذي أوصلني إلى هذه الحال ، ما من الله به علي من الإيمان بالبعث والحساب ، والاستعداد له بالممكن من العمل ، ولهذا قال :
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
فأما من أعطي كتاب أعماله بيمينه، فيقول: تعالوا اقْرءَوُا كِتَابِيَهْ.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{فأمّا مَنْ أُوتي كتابَه بيمينه} لأن إعطاء الكتاب باليمين دليل على النجاة.
{فيقول هاؤم اقْرَؤوا كِتابيهْ} ثقة بسلامته وسروراً بنجاته، لأن اليمين عند العرب من دلائل الفرج، والشمال من دلائل الغم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يسلم له السرورُ بنعمة الله، ويأخذ في الحمد والمدح.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والذين يعطون كتبهم بأيمانهم هم المخلدون في الجنة أهل الإيمان.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يخبر تعالى عن سعادة من أوتى كتابه يوم القيامة بيمينه، وفرحه بذلك، وأنه من شدة فرحه يقول لكل من لقيه: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} أي: خذوا اقرؤوا كتابيه؛ لأنه يعلم أن الذي فيه خير وحسنات محضة؛ لأنه ممن بَدل الله سيئاته حسنات...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان من المعلوم أنهم قسمان: محسن ومسيء، وكان التقدير: فنعطي كلاًّ منكم صحيفة أعماله من أفعاله وأقواله وجميع خلائقه وأحواله، فمنكم من تدفع إليه في يمينه فتظهر له حسناته وتستر عنه سيئاته، ومنكم من يعطاها في شماله فتبدو له سيئاته ويمحي ما كان من حسناته، لأنه أوتي ثوابه في الدنيا بما عجل له من طيباته، عطف عليه مفصلاً له قوله: {فأما من أوتي} بناه للمفعول لأن دلالة السعادة الوقوع في اليمين لا من معط معين {كتابه} أي الذي أثبت فيه أعماله {بيمينه فيقول} لما رأى من سعادته تبجحاً بحاله وإظهاراً لنعمة ربه لأن الإنسان مطبوع على أن يظهر ما آتاه من خير تكميلاً للذته بكبت أعدائه وتفريح أوليائه، {هاؤم} أي خذوا أيها الحاضرون من الخلائق الملائكة وغيرهم، فيها صوت يفهم منه معنى: خذوا... وإنما اختارها هنا ليعلم أن خطابها لجميع أهل الموقف...
{اقرءوا كتابيه} وهاؤه للسكت، كأنها إشارة إلى شدة الكرب في ذلك اليوم، للدلالة على أنه إذا كان هذا السعيد يسكت في كل جملة للاستراحة لا يقدر في الكلام على المضي، فما الظن بغيره، وتشير أيضاً مع ذلك إلى فراغ الأمر ونجازة الجزم به والوثوق بأنه لا يغير.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وبعدئذ يعرض مشهد الناجين والمعذبين، كأنه حاضر تراه العيون.. (فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول: هاؤم اقرأوا كتابيه، إني ظننت أني ملاق حسابيه.. فهو في عيشة راضية. في جنة عالية. قطوفها دانية. كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية). وأخذ الكتاب باليمين وبالشمال ومن وراء الظهر قد يكون حقيقة مادية، وقد يكون تمثيلا لغويا جاريا على اصطلاحات اللغة العربية من تعبيرهم عن وجهة الخير باليمين ووجهة الشر بالشمال أو من وراء الظهر.. وسواء كان هذا أو ذاك فالمدلول واحد، وهو لا يستدعي جدلا يضيع فيه جلال الموقف! والمشهد المعروض هو مشهد الناجي في ذلك اليوم العصيب، وهو ينطلق في فرحة غامرة، بين الجموع الحاشدة، تملأ الفرحة جوانحه، وتغلبه على لسانه، فيهتف: هاؤم اقرؤوا كتابيه.. ثم يذكر في بهجة أنه لم يكن يصدق أنه ناج، بل كان يتوقع أن يناقش الحساب.. "ومن نوقش الحساب عذب " كما جاء في الأثر: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: " من نوقش الحساب عذب " فقلت: أليس يقول الله تعالى: (فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا) فقال: " إنما ذلك العرض وليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك". وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا بشر بن مطر الواسطي، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا عاصم، عن الأحول، عن أبي عثمان، قال: المؤمن يعطى كتابه بيمينه في ستر من الله، فيقرأ سيئاته، فكلما قرأ سيئة تغير لونه، حتى يمر بحسناته فيقرأها فيرجع إليه لونه، ثم ينظر فإذا سيئاته قد بدلت حسنات. قال: فعند ذلك يقول: هاؤم اقرؤوا كتابيه.
ولما كان من المعلوم أنهم قسمان : محسن ومسيء ، وكان التقدير : فنعطي كلاًّ منكم صحيفة أعماله من أفعاله وأقواله وجميع خلائقه وأحواله ، فمنكم من تدفع إليه في يمينه فتظهر له حسناته وتستر عنه سيئاته ، ومنكم من يعطاها في شماله فتبدو له سيئاته ويمحي ما كان من حسناته ، لأنه أوتي ثوابه في الدنيا بما عجل له من طيباته ، عطف عليه مفصلاً له قوله : { فأما من أوتي } بناه للمفعول لأن دلالة السعادة الوقوع في اليمين لا من معط معين { كتابه } أي الذي أثبت فيه أعماله { بيمينه{[68035]} فيقول } لما رأى من سعادته تبجحاً بحاله وإظهاراً لنعمة ربه لأن الإنسان مطبوع على أن يظهر ما آتاه من خير تكميلاً للذته بكبت{[68036]} أعدائه وتفريح أوليائه ، قيل : إنه تكتب سيئاته في باطن صحيفته وحسناته في ظاهرها ، فيقرأ الباطن ويقرأ الناس الظاهر ، فإذا أنهاه قيل له : قد غفرها الله ، اقلب الصحيفة ، فحينئذ يكون قوله : { هاؤم } أي خذوا أيها الحاضرون من الخلائق الملائكة وغيرهم ، فيها صوت يفهم منه معنى : خذوا ، ويوصل تارة بالكاف وتارة بالهمزة ، اسم فعل ، وإنما اختارها هنا ليعلم أن خطابها لجميع أهل الموقف{[68037]} من كان منهم باطناً من الملائكة والجن وغيرهم ، ومن كان منهم ظاهراً لأن الألف عند الربانيين غيب وإحاطة كما دل عليها مخرجها ، فهي عبارة عندهم عن القائم الأعلى المحيط ، وروي معنى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما ، والهمزة {[68038]}بدء غيبه{[68039]} ولذا كان مخرجها أقصى الحروف الحلقية دلالة على ذلك ، وبدء غيب الله سبحانه وتعالى أفعاله وهي تشمل الظاهر والخفي {[68040]}أصلها الكاف{[68041]} فهي عندهم ظهور متكامل ذو استقلال ، وهو من يكون من شأنه الظهور ، وأبناء الجنس أحق بهذا{[68042]} ، وقد دل على ذلك مخرج الكاف الذي بعد القاف من أصل اللسان الأقرب إلى وسطه ، ومفعول " ما " محذوف عند البصريين دل عليه " كتابيه {[68043]} " من قوله : { اقرءوا كتابيه * } وهاؤه للسكت ، كأنها إشارة إلى شدة الكرب في ذلك اليوم للدلالة على أنه إذا كان هذا السعيد يسكت في كل جملة للاستراحة لا يقدر في الكلام على المضي فما الظن بغيره ، وتشير{[68044]} أيضاً مع ذلك إلى فراغ الأمر ونجازة الجزم{[68045]} به والوثوق بأنه لا يغير .
قوله تعالى : { فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرؤوا كتابيه 19 إني ظننت أني ملاق حسابيه 20 فهو في عيشة راضية 21 في جنة عالية 22 قطوفها دانية 23 كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية } .
يبين الله في ذلك حال السعداء والأشقياء يوم القيامة . أما السعداء فإنهم حينئذ آمنون راضون محبورون . واما الأشقياء فإنهم مذعورون منكوسون منقلبون على وجوههم ، خاسرين وقد غشيهم من شدة الكرب والإياس ما غشيهم . وهو قوله : { فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرؤوا كتابيه } وذلك لدى تسلم صحائف الأعمال والناس حينئذ واقفون واجفون وجلون . فإذا أعطي المرء كتاب أعماله بيمينه علم حينئذ أنه من أهل النجاة فانقلب إلى الناس في ذروة الفرح والسرور قائلا لهم : { هاؤم اقرؤوا كتابيه } أي تعالوا . أو خذوا { اقرؤوا كتابيه } والهاء للسكت .