الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ} (43)

الحادية عشرة- قوله تعالى : " ولمن صبر وغفر " أي صبر على الأذى و " غفر " أي ترك الانتصار لوجه الله تعالى ، وهذا فيمن ظلمه مسلم . ويُحكى أن رجلا سب رجلا في مجلس الحسن رحمه الله فكان المسبوب يكظم ويعرق فيمسح العرق ، ثم قام فتلا هذه الآية ، فقال الحسن : عقلها والله ! وفهمها إذ ضيعها الجاهلون . وبالجملة العفو مندوب إليه ، ثم قد ينعكس الأمر في بعض الأحوال فيرجع ترك العفو مندوبا إليه كما تقدم ، وذلك إذا احتيج إلى كف زيادة البغي وقطع مادة الأذى ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل عليه ، وهو أن زينب أسمعت عائشة رضي الله عنهما بحضرته فكان ينهاها فلا تنتهي ، فقال لعائشة : ( دونك فانتصري ) خرجه مسلم في صحيحه بمعناه . وقيل : " صبر " عن المعاصي وستر على المساوئ . " إن ذلك لمن عزم الأمور " أي من عزائم الله التي أمر بها . وقيل : من عزائم الصواب التي وفق لها . وذكر الكلبي والفراء أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه مع ثلاث آيات قبلها ، وقد شتمه بعض الأنصار فرد عليه ثم أمسك . وهي المدنيات من هذه السورة . وقيل : هذه الآيات في المشركين ، وكان هذا في ابتداء الإسلام قبل الأمر بالقتال ثم نسختها آية القتال ، وهو قول ابن زيد ، وقد تقدم . وفي تفسير ابن عباس " ولمن انتصر بعد ظلمه " يريد حمزة بن عبد المطلب ، وعبيدة وعليا وجميع المهاجرين رضوان الله عليهم . " فأولئك ما عليهم من سبيل " يريد حمزة بن عبد المطلب وعبيدة وعليا رضوان الله عليهم أجمعين . " إنما السبيل على الذين يظلمون الناس " يريد عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأبا جهل والأسود ، وكل من قاتل من المشركين يوم بدر . " ويبغون في الأرض " يريد بالظلم والكفر . " أولئك لهم عذاب أليم " يريد وجيع . " ولمن صبر وغفر " يريد أبا بكر وعمر وأبا عبيدة بن الجراح ومصعب بن عمير وجميع أهل بدر رضوان الله عليهم أجمعين . " إن ذلك من عزم الأمور " حيث قبلوا الفداء وصبروا على الأذى .

 
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي - ابن جزي [إخفاء]  
{وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ} (43)

{ والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون } ، لأنه لما قاتلته الفئة الباغية قاتلها انتصارا للحق ، وانظر كيف سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم المقاتلين لعلي الفئة الباغية حسبما ورد في الحديث الصحيح أنه قال لعمار بن ياسر : " تقتلك الفئة الباغية " فذلك هو البغي الذي أصابه وقوله : { فمن عفا وأصلح فأجره على الله } إشارة إلى فعل الحسن بن علي حين بايع معاوية ، وأسقط حق نفسه ليصلح أحوال المسلمين ، ويحقن دماءهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحسن " إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " .

وقوله : { ولمن انتصر بعد ظلمه } ، فأولئك ما عليهم من سبيل إشارة إلى انتصار الحسين بعد موت الحسن ، وطلبه للخلافة وانتصاره من بني أمية .

وقوله : { إنما السبيل على الذين يظلمون الناس } إشارة إلى بني أمية ، فإنهم استطالوا على الناس كما جاء في الحديث عنهم ، " أنهم جعلوا عباد الله حولا ومال الله دولا ويكفيك من ظلمهم أنهم كانوا يلعنون علي بن أبي طالب على منابرهم " ، وقوله : { ولمن صبر وغفر } الآية : إشارة إلى صبر أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم على ما نالهم من الضر والذل ، طول مدة بني أمية { وجزاء سيئة سيئة مثلها } سمى العقوبة باسم الذنب وجعلها مثلها تحرزا من الزيادة عليها .

{ فمن عفا وأصلح فأجره على الله } هذا يدل على أن العفو عن الظلمة أفضل من الانتصار ، لأنه ضمن الأجر في العفو ، وذكر الانتصار بلفظ الإباحة في قوله : { ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل } وقيل : إن الانتصار أفضل ، والأول أصح فإن قيل : كيف ذكر الانتصار في صفات المدح في قوله : { والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون } والمباح لا مدح فيه ولا ذم ، فالجواب : من ثلاثة أوجه :

أحدها : أن المباح قد يمدح لأنه قيام بحق لا بباطل .

والثاني : أن مدح الانتصار لكونه مكان بعد الظلم تحرزا ممن بدأ بالظلم فكأن المدح إنما هو بترك الابتداء بالظلم .

والثالث : إن كانت الإشارة بذلك إلى علي بن أبي طالب حسبما ذكرنا فانتصاره محمود ، لأن قتال أهل البغي واجب لقوله تعالى : { فقاتلوا التي تبغي } [ الحجرات : 9 ] .

 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ} (43)

قوله : { وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } اللام ، لام الابتداء . ومن ، شرطية وقيل : اسم موصول . يبين الله في ذلك فضل الصبر على الإساءة والأذية عند الاقتدار على الانتقام . والمعنى : أن من صبر على إساءة المسيء إليه فغفر له جُرمه ولم يأخذ لنفسه منه وهو قادر على الانتصار منه ، مبتغيا بذلك وجه الله وجزيل ثوابه { إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } يعني ذلك الصبر على الإساءة والعفو عن المسيء لمن عزم الأمور الجيدة أو من عزائم الله التي أمر بها . أو من الأمور التي ندب الله إليها عباده وعزم عليهم العمل بها . {[4116]}


[4116]:تفسير القرطبي ج 16 ص 43-45 وتفسير الطبري ج 25 ص 24-25 وتفسير الرازي ج 27 ص 183.