الأولى- قوله تعالى : " والذين إذا أصابهم البغي " أي أصابهم بغي المشركين . قال ابن عباس : وذلك أن المشركين بغوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه وآذوهم وأخرجوهم من مكة فأذن الله لهم بالخروج ومكن لهم في الأرض ونصرهم على من بغى عليهم ، وذلك قوله في سورة الحج : " أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير . الذين أخرجوا . . . " {[13536]} [ الحج : 39 - 40 ] الآيات كلها . وقيل : هو عام في بغي كل باغ من كافر وغيره ، أي إذا نالهم ظلم . من ظالم لم يستسلموا لظلمه . وهذه إشارة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود . قال ابن العربي : ذكر الله الانتصار في البغي في معرض المدح ، وذكر العفو عن الجرم في موضع آخر في معرض المدح ، فاحتمل أن يكون أحدهما رافعا للآخر ، واحتمل أن يكون ذلك راجعا إلى حالتين : إحداهما أن يكون الباغي معلنا بالفجور ، وقحا في الجمهور ، مؤذيا للصغير والكبير ، فيكون الانتقام منه أفضل . وفي مثله قال إبراهيم النخعي : كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فتجترئ عليهم الفساق . الثانية : أن تكون الفلتة ، أو يقع ذلك ممن يعترف بالزلة ويسأل المغفرة ، فالعفو ها هنا أفضل ، وفي مثله نزلت : " وأن تعفوا أقرب للتقوى " {[13537]} [ البقرة : 237 ] . وقوله : " فمن تصدق به فهو كفارة له " {[13538]} [ المائدة : 45 ] . وقوله : " وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم " {[13539]} [ النور : 22 ] . قلت : هذا حسن ، وهكذا ذكر الكيا الطبري في أحكامه قال : قوله تعالى : " والذين إذا أصابهم البغي ينتصرون " يدل ظاهره على أن الانتصار في هذا الموضع أفضل ، ألا ترى أنه قرنه إلى ذكر الاستجابة لله سبحانه وتعالى وإقام الصلاة ، وهو محمول على ما ذكر إبراهيم النخعي أنهم كانوا يكرهون للمؤمنين أن يذلوا أنفسهم فتجترئ عليهم الفساق ، فهذا فيمن تعدى وأصر على ذلك . والموضع المأمور فيه بالعفو إذا كان الجاني نادما مقلعا . وقد قال عقيب هذه الآية : " ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل " . ويقتضي ذلك إباحة الانتصار لا الأمر به ، وقد عقبه بقوله : " ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور " . وهو محمول على الغفران عن غير المصر ، فأما المصر على البغي والظلم فالأفضل الانتصار منه بدلالة الآية التي قبلها . وقيل : أي إذا أصابهم البغي تناصروا عليه حتى يزيلوه عنهم ويدفعوه . قاله ابن بحر . وهو راجع إلى العموم على ما ذكرنا .
{ والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون } ، لأنه لما قاتلته الفئة الباغية قاتلها انتصارا للحق ، وانظر كيف سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم المقاتلين لعلي الفئة الباغية حسبما ورد في الحديث الصحيح أنه قال لعمار بن ياسر : " تقتلك الفئة الباغية " فذلك هو البغي الذي أصابه وقوله : { فمن عفا وأصلح فأجره على الله } إشارة إلى فعل الحسن بن علي حين بايع معاوية ، وأسقط حق نفسه ليصلح أحوال المسلمين ، ويحقن دماءهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحسن " إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " .
وقوله : { ولمن انتصر بعد ظلمه } ، فأولئك ما عليهم من سبيل إشارة إلى انتصار الحسين بعد موت الحسن ، وطلبه للخلافة وانتصاره من بني أمية .
وقوله : { إنما السبيل على الذين يظلمون الناس } إشارة إلى بني أمية ، فإنهم استطالوا على الناس كما جاء في الحديث عنهم ، " أنهم جعلوا عباد الله حولا ومال الله دولا ويكفيك من ظلمهم أنهم كانوا يلعنون علي بن أبي طالب على منابرهم " ، وقوله : { ولمن صبر وغفر } الآية : إشارة إلى صبر أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم على ما نالهم من الضر والذل ، طول مدة بني أمية { وجزاء سيئة سيئة مثلها } سمى العقوبة باسم الذنب وجعلها مثلها تحرزا من الزيادة عليها .
{ فمن عفا وأصلح فأجره على الله } هذا يدل على أن العفو عن الظلمة أفضل من الانتصار ، لأنه ضمن الأجر في العفو ، وذكر الانتصار بلفظ الإباحة في قوله : { ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل } وقيل : إن الانتصار أفضل ، والأول أصح فإن قيل : كيف ذكر الانتصار في صفات المدح في قوله : { والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون } والمباح لا مدح فيه ولا ذم ، فالجواب : من ثلاثة أوجه :
أحدها : أن المباح قد يمدح لأنه قيام بحق لا بباطل .
والثاني : أن مدح الانتصار لكونه مكان بعد الظلم تحرزا ممن بدأ بالظلم فكأن المدح إنما هو بترك الابتداء بالظلم .
والثالث : إن كانت الإشارة بذلك إلى علي بن أبي طالب حسبما ذكرنا فانتصاره محمود ، لأن قتال أهل البغي واجب لقوله تعالى : { فقاتلوا التي تبغي } [ الحجرات : 9 ] .
قوله : { وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ } البغي معناه الظلم والتعدي وكل مجاوزة وإفراط على المقدار الذي هو حد الشيء فهو بغي{[4113]} وهذه واحدة أخرى من صفات المؤمنين الراسخين في العقيدة والإيمان وهي العزة والاستعلاء على الباطل والمبطلين . وعلى هذا إذا أصابهم من المشركين ظلم أو عدوان انتصروا منهم لأنفسهم ولم يستيئسوا أو يهنوا أو يذعنوا للذل والاستكانة والضعف وغير ذلك من وجوه الاستسلام والخور التي تنافي عقيدة الإسلام وأخلاق المسلمين الصادقين ؛ فقد بغى المشركون الظالمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين معه إذْ آذوهم وأخرجوهم من وطنهم فمكّن الله لهم في الأرض تمكينا ثم أذن لهم بقتال الظالمين لبغيهم عليهم وانتصارا لأنفسهم منهم . وهو قوله : { أُذن للذين يُقاتَلون بأنهم ظُلِموا } .
ويفهم من ذلك أن يكون المسلمون أقوياء في أنفسهم . أقوياء في عقيدتهم وكل مقوماتهم النفسية والروحية والعلمية والمادية ؛ كيلا يكونوا عاجزين ولا مقهورين ولا مستذلين للطغاة والكافرين ؛ بل قادرين على الانتقام ممن بغى عليهم من الكافرين الظالمين .
على أن المسلمين إذا جنحوا للعفو والصفح عمن بغى عليهم وكان فيهم القدرة على الانتقام من الظالم المعتدي ، فلا جناح عليهم في ذلك بل إن ذلك من شيم المؤمنين الأقوياء الأعزاء . وذلكم هو العفو عند المغفرة . وهو ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أكرم الأنام وخير من حملت الغبراء على متنها من أبرار أفذاذ عظام ؛ فقد كان عليه الصلاة والسلام يعفو عمن أساء إليه مع قدرته على الانتقام منه . ومن جملة ذلك : أنه عفا عن أولئك النفر الثمانين الذين قصدوه عام الحديبية ونزلوا من جبل التنعيم فلما قدر عليهم مَنَّ عليهم مع قدرته على الانتقام منهم . وكذلك عفوه صلى الله عليه وسلم عن غورث بن الحارث ، الذي أراد أن يفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم حين اخترط سيفه وهو نائم فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في يده صلتًا{[4114]} فانتهره فوضعه من يده وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف في يده ودعا أصحابه ثم أعلمهم بما كان من أمره وأمر هذا الرجل وعفا عنه . وكذلك عفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المرأة اليهودية – وهي زينب أخت مرحب اليهودي الخيبري الذي قتله محمود بن سلمة . وكانت هذه المرأة قد وضعت السمّ في ذراع شاة قُدمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر ، فأخبره الذراع بذلك فدعاها فاعترفت فقال صلى الله عليه وسلم : " ما حملك على ذلك ؟ " قالت : أردت إن كنت نبيًّا لم يضرك وإن لم تكن نبيًّا استرحنا منك . فأطلقها عليه الصلاة والسلام . ولكن لما مات منه بشر بن البراء ( رضي الله عنه ) قتلها به . إلى غير ذلك من وجوه العفو عن الباغين والمعتدين كيفما تكن أوجه الاعتداء ما دام المسلمون العافون قادرين على الانتقام منهم{[4115]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.