الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ إِسۡمَٰعِيلَۚ إِنَّهُۥ كَانَ صَادِقَ ٱلۡوَعۡدِ وَكَانَ رَسُولٗا نَّبِيّٗا} (54)

فيه ست مسائل :

الأولى- قوله تعالى : " واذكر في الكتاب إسماعيل " اختلف فيه ، فقيل : هو إسماعيل بن حزقيل ، بعثه الله إلى قومه فسلخوا جلدة رأسه ، فخيره الله تعالى فيما شاء من عذابهم ، فاستعفاه ورضي بثوابه ، وفوض أمرهم إليه في عفوه وعقوبته . والجمهور أنه إسماعيل الذبيح أبو العرب بن إبراهيم . وقد قيل : إن الذبيح إسحاق ، والأول أظهر على ما تقدم ويأتي في " الصافات " {[10867]} إن شاء الله تعالى . وخصه الله تعالى بصدق الوعد وإن كان موجودا في غيره من الأنبياء تشريفا له إكراما ، كالتقليب بنحو الحليم والأواه والصديق ، ولأنه المشهور المتواصف{[10868]} من خصاله .

الثانية-صدق الوعد محمود وهو من خلق النبيين والمرسلين ، وضده وهو الخلف مذموم ، وذلك من أخلاق الفاسقين والمنافقين ما تقدم بيانه في " براءة " {[10869]} . وقد أثنى الله تعالى على نبيه إسماعيل فوصفه بصدق الوعد . واختلف في ذلك ، فقيل : إنه وعد من نفسه بالصبر على الذبح فصبر حتى فدى . هذا في قول من يرى أنه الذبيح . وقيل : وعد رجلا أن يلقاه في موضع فجاء إسماعيل وانتظر الرجل يومه وليلته ، فلما كان في اليوم الآخر جاء ، فقال له : ما زلت ها هنا في انتظارك منذ أمس . وقيل : انتظره ثلاثة أيام . وقيل فعل مثله نبينا صلى الله عليه وسلم قبل بعثه ، ذكره النقاش وخرجه الترمذي وغيره عن عبدالله بن أبى الحَمْساء قال : بايعت النبي صلى الله عليه وسلم ببيع قبل أن يبعث وبقيت له بقية فوعدته أن آتيه بها في مكانه فنسيت ، ثم ذكرت بعد ثلاثة أيام ، فجئت فإذا هو في مكانه ، فقال : ( يا فتى لقد شققت علي أنا ها هنا منذ ثلاث أنتظرك ) لفظ أبي داود . وقال يزيد الرقاشي : انتظره إسماعيل اثنين وعشرين يوما ، ذكره الماوردي . وفي كتاب ابن سلام أنه انتظره سنة . وذكره الزمخشري عن ابن عباس : أنه وعد صاحبا له أن ينتظره في مكان فانتظره سنة . وذكره القشيري قال : فلم يبرح من مكانه سنة حتى أتاه جبريل عليه السلام فقال : إن التاجر الذي سألك أن تقعد له حتى يعود هو إبليس فلا تقعد ولا كرامة له . وهذا بعيد ولا يصح . وقد قيل : إن إسماعيل لم يعد شيئا إلا وفى به ، وهذا قول صحيح ، وهو الذي يقتضيه ظاهر الآية ، والله أعلم .

الثالثة-من هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم ( العدة دين ) . وفي الأثر ( وَأْيُ{[10870]} المؤمن واجب ) أي في أخلاق المؤمنين . وإنما قلنا أن ذلك ليس بواجب فرضا لإجماع العلماء على ما حكاه أبو عمر أن من وعد بمال ما كان ليضرب به مع الغرماء ، فلذلك قلنا إيجاب الوفاء به حسن مع المروءة ، ولا يقضى به والعرب تمتدح بالوفاء ، وتذم بالخلف والغدر ، وكذلك سائر الأمم ، ولقد أحسن القائل :

متى ما يقلْ حُرٌّ لصاحب حاجةٍ *** نعم يَقْضِهَا والحرُّ للوأيِ ضامنُ

ولا خلاف أن الوفاء يستحق صاحبه الحمد والشكر ، وعلى الخلف الذم . وقد أثنى الله تبارك وتعالى على من صدق وعده ، ووفى بنذره ، وكفى بهذا مدحا وثناء ، وبما خالفه ذما . قال مالك : إذا سأل الرجل الرجل أن يهب له الهبة فيقول له نعم ، ثم يبدو له ألا يفعل فما أرى يلزمه .

الرابعة-قال مالك : ولو كان ذلك في قضاء دين فسأله أن يقضيه عنه فقال نعم ، وثم رجال يشهدون عليه فما أحراه أن يلزمه إذا شهد عليه اثنان . وقال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والشافعي وسائر الفقهاء : إن العدة لا يلزم منها{[10871]} شيء ؛ لأنها منافع لم يقبضها في العارية لأنها طارئة ، وفي غير العارية هي أشخاص وأعيان موهوبة لم تقبض فلصاحبها الرجوع فيها . وفي البخاري " واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد " ، وقضى ابن أشوع بالوعد وذكر ذلك عن سمرة بن جندب . قال البخاري{[10872]} : ورأيت إسحاق بن إبراهيم يحتج بحديث ابن أشوع .

الخامسة- " وكان رسولا نبيا .

قيل : أرسل إسماعيل إلى جرهم . وكل الأنبياء كانوا إذا وعدوا صدقوا ، وخص إسماعيل بالذكر تشريفا له . والله أعلم .


[10867]:راجع جـ 15 ص 98 فما بعد.
[10868]:كذا جـ و و حو ك. وفي ي: المتراحف وصوابه: المتراصف: أي المنتظم.
[10869]:راجع جـ 8 ص 112 فما بعد.
[10870]:الوأي: الوعد.
[10871]:في ي: لا يلزم فيها بشيء.
[10872]:قاله في "التاريخ الأوسط" كما في "تهذيب التهذيب".