الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{لَّا يَسۡمَعُونَ فِيهَا لَغۡوًا إِلَّا سَلَٰمٗاۖ وَلَهُمۡ رِزۡقُهُمۡ فِيهَا بُكۡرَةٗ وَعَشِيّٗا} (62)

" لا يسمعون فيها لغوا " أي في الجنة واللغو معناه الباطل من الكلام والفحش منه والفضول ومالا ينتفع به ومنه الحديث ( إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقه لغوت ) ويروى " لغيت " وهي لغة أبي هريرة كما قال الشاعر{[10895]}

ورَبِّ أسرابِ حجيج كُظَّمِ *** عن اللَّغَا ورَفَثِ التَّكَلُّمِ

قال ابن عباس : اللغو كل ما لم يكن فيه ذكر الله تعالى أي كلامهم في الجنة حمد الله وتسبيحه " إلا سلاما " أي لكن يسمعون سلاما فهو من الاستثناء المنقطع يعني سلام بعضهم على بعض وسلام الملك عليهم . قاله مقاتل وغيره ، والسلام اسم جامع للخير والمعنى أنهم لا يسمعون فيها إلا ما يحبون قوله تعالى : " ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا " أي لهم ما يشتهون من المطاعم والمشارب بكرة وعشيا أي قدر هذين الوقتين إذ لا بكرة ثم ولا عشيا كقوله تعالى " غدوها شهر ورواحها{[10896]} شهر " أي قدر شهر ، قال معناه ابن عباس وابن جريج وغيرهما . وقيل : عرّفهم اعتدال أحوال أهل الجنة ، وكان أهنأ النعمة عند العرب التمكين من المطعم والمشرب بكرة وعشيا ، قال يحيى بن أبي كثير وقتادة : كانت العرب في زمانها من وجد غداء وعشاء معا فذلك هو الناعم ، فنزلت . وقيل : أي رزقهم فيها غير منقطع كما قال ( لا مقطوعة ولا ممنوعة{[10897]} ) كما تقول : أنا أصبح وأمسي في ذكرك أي ذكري لك دائم . ويحتمل أن تكون البكرة قبل تشاغلهم بلذاتهم والعشي بعد فراغهم من لذاتهم ؛ لأنه يتخللها فترات انتقال من حال إلى حال ، وهذا يرجع إلى القول الأول ، وروى الزبير بن بكار عن إسماعيل بن أبي أويس قال : قال مالك بن أنس طعام المؤمنين في اليوم مرتان ، وتلا قول الله عز وجل " ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا " ثم قال : وعوض الله عز وجل المؤمنين في الصيام السحور بدلا من الغداء ليقووا به على عبادة ربهم . وقيل : إنما ذكر ذلك ؛ لأن صفة الغداء وهيئته [ تخلف ] عن صفة العشاء وهيئته ، وهذا لا يعرفه إلا الملوك ، وكذلك يكون في الجنة رزق الغداء غير رزق العشاء تتلون عليهم النعم ليزدادوا تنعما وغبطة . وخرج الترمذي الحكيم في ( نوادر الأصول ) من حديث أبان عن الحسن وأبي قلابة قالا : قال رجل : يا رسول الله هل في الجنة من ليل ؟ قال ( وما هيجك على هذا ) قال : سمعت الله تعالى يذكر في الكتاب : " ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا " فقلت : الليل بين البكرة والعشي ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ليس هناك ليل إنما هو ضوء ونور ، يَردُّ الغدو على الرواح والرواح على الغدو وتأتيهم طرف الهدايا من الله تعالى لمواقيت الصلاة التي كانوا يصلون فيها في الدنيا وتسلم عليهم الملائكة ) وهذا في غاية البيان لمعنى الآية ، وقد ذكرناه في كتاب ( التذكرة ) وقال العلماء : ليس في الجنة ليل ولا نهار ، وإنما هم في نور أبدا إنما يعرفون مقدار الليل من النهار بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب ، ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب وفتح الأبواب ، ذكره أبو الفرج الجوزي والمهدوي وغيرهما .


[10895]:هو رؤبة ونسبه ابن بري للعجاج. "اللسان".
[10896]:راجع جـ 14 ص 268.
[10897]:راجع جـ 17 ص 210.