الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱصۡبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (200)

الثالثة والعشرون : قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اصبروا } الآية .

ختم تعالى السورة بما تضمنته هذه الآية العاشرة من الوصاة التي جمعت الظهور في الدنيا على الأعداء والفوز بنعيم الآخرة ، فحض على الصبر على الطاعات وعن الشهوات ، والصبر الحبس ، وقد تقدم في " البقرة " بيانه{[3842]} . وأمر بالمصابرة فقيل : معناه مصابرة الأعداء ، قاله زيد بن أسلم . وقال الحسن : على الصلوات الخمس . وقيل : إدامة مخالفة النفس عن شهواتها فهي تدعو وهو ينزع . وقال عطاء والقرظي : صابروا الوعد الذي وعدتم . أي لا تيأسوا وانتظروا الفرج ، قال صلى الله عليه وسلم : ( انتظار الفرج بالصبر عبادة ) . واختار هذا القول أبو عمر رحمه الله . والأول قول الجمهور ، ومنه قول عنترة :

فلم أر حَيّاً صابروا مثل صبرنا *** ولا كافَحُوا مثلَ الذين نُكَافِحُ

فقوله " صابروا مثل صبرنا " أي صابروا العدو في الحرب ولم يبد منهم جبن ولا خور . والمكافحة : المواجهة والمقبلة في الحرب ؛ ولذلك اختلفوا في معنى قوله " ورابطوا " فقال جمهور الأمة : رابطوا أعدائكم بالخيل ، أي ارتبطوها كما يرتبطها أعداءكم ، ومنه قوله تعالى : " ومن رباط الخيل " {[3843]} [ الأنفال : 60 ] وفي الموطأ عن مالك عن زيد بن أسلم قال : كتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعا الروم وما يتخوف منهم ، فكتب إليه عمر : أما بعد ، فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزل شدة يجعل الله له بعدها فرجا ، وإنه لن يغلب عسر يسرين ، وإن الله تعالى يقول في كتابه " يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون " وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن : هذه الآية في انتظار الصلاة بعد الصلاة ، ولم يكن في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه ، رواه الحاكم أبو عبد الله في صحيحه . واحتج أبو سلمة بقوله عليه السلام : ( ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط ) ثلاثا ، رواه مالك . قال ابن عطية : والقول الصحيح هو أن الرباط هو{[3844]} الملازمة في سبيل الله . أصلها من ربط الخيل ، ثم سمي كل ملازم لثغر من ثغور الإسلام{[3845]} مرابطا ، فارسا كان أو راجلا . واللفظ مأخوذ من الربط . وقول النبي صلى الله عليه وسلم ( فذلكم الرباط ) إنما هو تشبيه بالرباط في سبيل الله . والرباط اللغوي هو الأول ؛ وهذا{[3846]} كقوله : ( ليس الشديد بالصرعة ){[3847]} وقوله ( ليس المسكين بهذا الطواف ) إلى غير ذلك .

قلت : قوله " والرباط اللغوي هو الأول " ليس بمسلم ، فإن الخليل بن أحمد أحد أئمة اللغة وثقاتها قد قال : الرباط ملازمة الثغور ، ومواظبة الصلاة أيضا ، فقد حصل أن انتظار الصلاة رباط لغوي حقيقة ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأكثر من هذا ما قاله الشيباني أنه يقال : ماء مترابط أي دائم لا ينزح{[3848]} ، حكاه ابن فارس وهو يقتضي تعدية الرباط لغة إلى غير ما ذكرناه . فإن المرابطة عند العرب : العقد على الشيء حتى لا ينحل ، فيعود إلى ما كان صبر عنه ، فيحبس القلب على النية الحسنة والجسم على فعل الطاعة . ومن أعظمها وأهمها ارتباط الخيل في سبيل الله كما نص عليه في التنزيل في قوله : " ومن رباط الخيل " [ الأنفال : 60 ] على ما يأتي . وارتباط النفس على الصلوات كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم ؛ رواه أبو هريرة وجابر ولا عطر بعد عروس .

الرابعة والعشرون : المرابط في سبيل الله عند الفقهاء هو الذي يشخص إلى ثغر من الثغور ليرابط فيه مدة ما ، قاله محمد بن المواز ورواه{[3849]} . وأما سكان الثغور دائما بأهليهم الذين يعمرون ويكتسبون هنالك ، فهم وإن كانوا حماة فليسوا بمرابطين . قال ابن عطية . وقال ابن خويز منداد : وللرباط حالتان : حالة يكون الثغر مأمونا منيعا يجوز سكناه بالأهل والولد . وإن كان غير مأمون جاز أن يرابط فيه بنفسه إذا كان من أهل القتال ، ولا ينقل إليه الأهل والولد لئلا يظهر العدو فيسبي ويسترق . والله أعلم .

الخامسة والعشرون : جاء في فضل الرباط أحاديث كثيرة ، منها ما رواه البخاري عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : رباط يوم في سبيل الله خير عند الله من الدنيا وما فيها ) . وفي صحيح مسلم عن سلمان قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه وأمن الفتان ){[3850]} . وروى أبو داود في سننه عن فضالة بن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كل ميت يختم على عمله إلا المرابط فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة ويؤمن من فتان القبر ) . وفي هذين الحديثين دليل على أن الرباط أفضل الأعمال التي يبقى ثوابها بعد الموت ، كما جاء في حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إذا مات الإنسان{[3851]} انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة إلا من صدق جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له ) وهو حديث صحيح انفرد بإخراجه مسلم ، فإن الصدقة الجارية والعلم المنتفع به والولد الصالح يدعو لأبويه ينقطع ذلك بنفاد الصدقات وذهاب العلم وموت الولد . والرباط يضاعف أجره إلى يوم القيامة ، لأنه لا معنى للنماء إلا المضاعفة ، وهي غير موقوفة على سبب فتنقطع بانقطاعه ، بل هي فضل دائم من الله تعالى إلى يوم القيامة . وهذا لأن أعمال البر كلها لا يتمكن منها إلا بالسلامة من العدو والتحرز منه بحراسة بيضة الدين وإقامة شعائر الإسلام . وهذا العمل الذي يجري عليه ثوابه هو ما كان يعمله من الأعمال الصالحة ، خرجه ابن ماجه بإسناد صحيح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من مات مرابطا في سبيل الله أجرى عليه أجر عمله الصالح الذي كان يعمل وأجرى عليه رزقه وأمن من الفُتَّان وبعثه الله يوم القيامة آمنا من الفزع ) . وفي هذا الحديث قيد ثان وهو الموت حالة الرباط . والله أعلم . وروي عن عثمان بن عفان قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من رابط ليلة في سبيل الله كانت له كألف ليلة صيامها وقيامها ) . وروي عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لرباط يوم في سبيل الله من وراء عورة المسلمين محتسبا من غير شهر رمضان أعظم أجرا من عبادة مائة سنة صيامها وقيامها ورباط يوم في سبيل الله من وراء عورة المسلمين محتسبا من شهر رمضان أفضل عند الله وأعظم أجرا - أراه قال : من عبادة ألف سنة صيامها وقيامها فإن رده الله إلى أهله سالما لم تكتب عليه سيئة ألف سنة وتكتب له الحسنات ويجرى له أجر الرباط إلى يوم القيامة ){[3852]} . ودل هذا الحديث على أن رباط يوم في شهر رمضان يحصل له من الثواب الدائم وإن لم يمت مرابطا . والله أعلم . وعن أنس بن مالك قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( حرس ليلة في سبيل الله أفضل من صيام رجل وقيامه في أهله ألف سنة السنة ثلاثمائة يوم وستون{[3853]} يوما واليوم كألف سنة ) .

قلت : وجاء في انتظار الصلاة بعد الصلاة أنه رباط ، فقد يحصل لمنتظر الصلوات ذلك الفضل إن شاء الله تعالى . وقد روى أبو نعيم الحافظ قال حدثنا سليمان بن أحمد قال حدثنا علي بن عبدالعزيز قال حدثنا حجاج بن المنهال ح{[3854]} وحدثنا أبو بكر بن مالك قال : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدثني أبي قال حدثني الحسن بن موسى قال حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أبي أيوب الأزدي عن نوف البكالي عن عبدالله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ذات ليلة المغرب فصلينا معه فعقب من عقب ورجع من رجع ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يثوب{[3855]} الناس لصلاة العشاء ، فجاء وقد حضره الناس رافعا أصبعه وقد عقد تسعا وعشرين يشير بالسبابة إلى السماء فحسر ثوبه عن ركبتيه وهو يقول : ( أبشروا معشر المسلمين هذا ربكم قد فتح بابا من أبواب السماء يباهي بكم الملائكة يقول يا ملائكتي : انظروا إلى عبادي هؤلاء قضوا فريضة وهم ينتظرون أخرى ) . ورواه حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن مطرف بن عبدالله : أن نوفا وعبد الله بن عمرو اجتمعا فحدث نوف عن التوراة وحدث عبد الله بن عمرو بهذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم . " واتقوا الله " أي لم تؤمروا بالجهاد من غير تقوى . " لعلكم تفلحون " لتكونوا على رجاء من الفلاح . وقيل : لعل بمعنى لكي . والفلاح البقاء ، وقد مضى هذا كله في ( البقرة ) مستوفى{[3856]} ، والحمد لله .


[3842]:- راجع جـ2 ص 173.
[3843]:- راجع جـ8 ص 36.
[3844]:- من ب و جـ وهـ وط.
[3845]:- في ب: المسلمين.
[3846]:- في ب: هكذا
[3847]:- الصرعة بضم ففتح المبالغ في الصراع الذي لا يغلب.
[3848]:- في الأصول: لا يبرح. والتصويب من اللسان.
[3849]:- كذا في ز و ب وجـ ود وهـ و ي وط وابن عطية وفي ا وحـ وداود.
[3850]:- الفتان: الشيطان، ويروى بفتح الفاء وضمها. فمن رواه بالفتح فهو واحد؛ لأنه يفتن الناس عن الدين. ومن رواه بالضم فهو جمع فاتن؛ أي يعاون أحدهما الآخر الذين يضلون الناس عن الحق ويفتنونهم.
[3851]:- هذه رواية مسلم كما في كتاب الوصية. وكذا في ز و ط و ي و جـ و هـ. وفي رواية: "ابن آدم" والحديث رواه الترمذي وأبو داود والنسائي بلفظ: "إلا من ثلاث صدقة" الحديث، والبخاري في الأدب المفرد.
[3852]:- رواية ابن ماجه.
[3853]:- في جـ.
[3854]:- جرت عادة المحدثين أنه إذا كان للحديث إسنادان أو أكثر، كتبوا عند الانتقال من إسناد إلى إسناد "ح" وهي حاء مهملة مفردة. والمختار أنها مأخوذة من التحول لتحوله من إسناد إلى إسناد، وأنه يقول القارئ إذا انتهى إليه: "ح" ويستمر في قراءة ما بعدها. وقيل: إنها من حال بين الشيئين إذا حجز؛ لكونها حالت بين الإسنادين، وأنه لا يلفظ عند الانتهاء إليها بشيء، وليست من الرواية. وقيل: إنها رمز إلى قوله: الحديث. وأن أهل المغرب كلهم يقولون إذا وصلوا إليها: الحديث. ثم هذه الحاء توجد في كتب المتأخرين كثيرا وهي كثيرة في صحيح مسلم قليلة في صحيح البخاري. (راجع مقدمة النووي على صحيح مسلم).
[3855]:- في جـ: يتوجه.
[3856]:- راجع جـ1 ص 161، 182، 227.