الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{قُلۡ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسۡتَمَعَ نَفَرٞ مِّنَ ٱلۡجِنِّ فَقَالُوٓاْ إِنَّا سَمِعۡنَا قُرۡءَانًا عَجَبٗا} (1)

مقدمة السورة:

مكية في قول الجميع . وهي ثمان وعشرون آية .

فيه خمس مسائل :

الأولى- قوله تعالى : " قل أوحي إلي " أي قل يا محمد لأمتك : أوحى الله إلي على لسان جبريل " أنه استمع " إلي " نفر من الجن " وما كان عليه السلام عالما به قبل أن أوحى إليه . هكذا قال ابن عباس وغيره على ما يأتي . وقرأ ابن أبي عبلة " أحِي " {[15416]} على الأصل ، يقال أوحَى إليه ووحَى ، فقلبت الواو همزة ، ومنه قوله تعالى : " وإذا الرسل أقتت " [ المرسلات : 11 ] وهو من القلب المطلق جوازه في كل واو مضمومة . وقد أطلقه المازني في المكسورة أيضا كإشاح{[15417]} وإسادة وإدعاء أخيه ونحوه .

الثانية- واختلف هل رآهم النبي صلى الله عليه وسلم أم لا ؟ فظاهر القرآن يدل على أنه لم يرهم ؛ لقوله تعالى : " استمع " ، وقوله تعالى : " وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن " [ الأحقاف : 29 ] . وفي صحيح مسلم والترمذي{[15418]} عن ابن عباس قال : ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن وما رآهم ، انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأرسلت عليهم الشهب ، فرجعت الشياطين إلى قومهم ، فقالوا : ما لكم ؟ قالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب ! قالوا : ما ذاك إلا من شيء حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها ، فانظروا ما هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء ؟ فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها ، فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة وهو بنخلة{[15419]} عامدين إلى سوق عكاظ ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر ؛ فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا : هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء . فرجعوا إلى قومهم فقالوا : يا قومنا : " إنا سمعنا قرآنا عجبا{[15420]} . يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا " فأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم : " قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن " : رواه الترمذي عن ابن عباس قال : قول الجن لقومهم : " لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا " قال : لما رأوه يصلي وأصحابه يصلون بصلاته فيسجدون بسجوده قال{[15421]} : تعجبوا من طواعية أصحابه له ، قالوا لقومهم : " لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا " [ الجن : 19 ] . قال : هذا حديث حسن صحيح ، ففي هذا الحديث دليل على أنه عليه السلام لم ير الجن ولكنهم حضروه ، وسمعوا قراءته . وفيه دليل على أن الجن كانوا مع الشياطين حين تجسسوا الخبر بسبب الشياطين لما رموا بالشهب . وكان المرميون بالشهب من الجن أيضا .

وقيل لهم شياطين كما قال : " شياطين الإنس والجن " [ الأنعام : 112 ] فإن الشيطان كل متمرد وخارج عن طاعة الله . وفي الترمذي عن ابن عباس قال : كان الجن يصعدون إلى السماء يستمعون إلى الوحي فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعا ، فأما الكلمة فتكون حقا ، وأما ما زادوا فيها{[15422]} ، فيكون باطلا . فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم منعوا مقاعدهم ، فذكروا ذلك لإبليس ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك ، فقال لهم إبليس : ما هذا الأمر{[15423]} إلا من{[15424]} أمر قد حدث في الأرض ! فبعث جنوده فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يصلي بين جبلين - أراه قال بمكة - فأتوه فأخبروه فقال : هذا الحديث{[15425]} الذي حدث في الأرض . قال : هذا حديث حسن صحيح . فدل هذا الحديث على أن الجن رموا كما رميت الشياطين . وفي رواية السدي : أنهم لما رموا أتوا إبليس فأخبروه بما كان من أمرهم فقال : ايتوني من كل أرض بقبضة من تراب أشمها فأتوه فشم فقال : صاحبكم بمكة . فبعث نفرا من الجن ، قيل : كانوا سبعة . وقيل : تسعة منهم زوبعة . وروى عاصم عن زر : أنهم كانوا سبعة نفر ، ثلاثة من أهل حران وأربعة من أهل نصيبين . وحكى جويبر عن الضحاك : أنهم كانوا تسعة من أهل نصيبين ( قرية باليمن غير التي بالعراق{[15426]} ) . وقيل : إن الجن الذين أتوا مكة جن نصيبين ، والذين أتوه بنخلة جن نينوى . وقد مضى بيان هذا في سورة ( الأحقاف{[15427]} ) . قال عكرمة : والسورة التي كان يقرؤها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اقرأ باسم ربك " [ العلق : 1 ] وقد مضى في سورة " الأحقاف " التعريف باسم النفر من الجن ، فلا معنى لإعادة ذلك . وقيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الجن ليلة الجن وهو أثبت ، روى عامر الشعبي قال : سألت علقمة هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ؟ فقال علقمة : أنا سألت ابن مسعود فقلت : هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ؟ قال : لا ، ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه ، فالتمسناه في الأودية والشعاب ، فقلنا استطير{[15428]} أو اغتيل ، قال : فبتنا بشر ليلة بات بها قوم ، فلما أصبح إذا هو يجيء من قبل حراء ، فقلنا : يا رسول الله ! فقدناك وطلبناك فلم نجدك ، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم ، فقال : ( أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن ) فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم ، وسألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة ، فقال : ( لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما ، وكل بعرة علف لدوابكم - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فلا تستنجوا بهما ، فإنهما طعام إخوانكم الجن ) قال ابن العربي : وابن مسعود أعرف من ابن عباس ؛ لأنه شاهده وابن عباس سمعه وليس الخبر كالمعاينة . وقد قيل : إن الجن أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم دفعتين : إحداهما بمكة وهي التي ذكرها ابن مسعود ، والثانية بنخلة وهي التي ذكرها ابن عباس . قال البيهقي : الذي حكاه عبد الله بن عباس إنما هو في أول ما سمعت الجن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وعلمت بحاله ، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم كما حكاه ، ثم أتاه داعي الجن مرة أخرى فذهب معه وقرأ عليهم القرآن كما حكاه عبد الله بن مسعود قال البيهقي : والأحاديث الصحاح تدل على أن ابن مسعود لم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ، وإنما سار معه حين انطلق به وبغيره يريه آثار الجن وآثار نيرانهم . قال : وقد روي من غير وجه أنه كان معه ليلتئذ ، وقد مضى هذا المعنى في سورة " الأحقاف " والحمد لله . روي عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أمرت أن أتلو القرآن على الجن فمن يذهب معي ؟ ) فسكتوا ، ثم قال الثانية ، ثم قال الثالثة ، ثم قال عبد الله بن مسعود : أنا أذهب معك يا رسول الله ، فانطلق حتى جاء الحجون عند شعب أبي دب{[15429]} فخط علي خطا فقال : ( لا تجاوزه ) ثم مضى إلى الحجون فانحدر عليه أمثال الحجل يحدرون{[15430]} الحجارة بأقدامهم ، يمشون يقرعون في دفوفهم كما تقرع النسوة في دفوفها ، حتى غشوه فلا أراه ، فقمت فأومى إلي بيده أن أجلس ، فتلا القرآن فلم يزل صوته يرتفع ، ولصقوا بالأرض حتى ما أراهم ، فلما انفتل إلي قال : ( أردت أن تأتيني ) ؟ قلت : نعم يا رسول الله . قال : ( ما كان ذلك لك ، هؤلاء الجن أتوا يستمعون القرآن ، ثم ولوا إلى قومهم منذرين فسألوني الزاد فزودتهم العظم والبعر فلا يستطيبن أحدكم بعظم ولا بعر ) .

قال عكرمة : وكانوا اثني عشر ألفا من جزيرة الموصل . وفي رواية : انطلق بي عليه السلام حتى إذا جئنا المسجد الذي عند حائط عوف خط لي خطا ، فأتاه نفر منهم فقال أصحابنا كأنهم رجال الزط{[15431]} وكأن وجوههم المكاكي{[15432]} ، فقالوا : ما أنت ؟ قال : ( أنا نبي الله ) قالوا : فمن يشهد لك على ذلك ؟ قال : ( هذه الشجرة ) فقال : ( يا شجرة ) فجاءت تجر عروقها ، لها قعاقع حتى انتصبت بين يديه ، فقال : ( على ماذا تشهدين ) قالت : أشهد أنك رسول الله . فرجعت كما جاءت تجر بعروقها الحجارة ، لها قعاقع حتى عادت كما كانت .

ثم روى أنه عليه السلام لما فرغ وضع رأسه على حجر ابن مسعود فرقد ثم استيقظ فقال : ( هل من وضوء ) قال : لا ، إلا أن معي إداوة فيها نبيذ . فقال : ( هل هو إلا تمر وماء ) فتوضأ منه .

الثالثة- قد مضى الكلام في الماء في سورة " الحجر " {[15433]} وما يستنجى به في سورة " براءة " {[15434]} فلا معنى للإعادة .

الرابعة- واختلف أهل العلم ، في أصل الجن ، فروى إسماعيل عن الحسن البصري : أن الجن ولد إبليس ، والإنس ولد آدم ، ومن هؤلاء وهؤلاء مؤمنون وكافرون ، وهم شركاء في الثواب والعقاب . فمن كان من هؤلاء وهؤلاء مؤمنا فهو ولي الله ، ومن كان من هؤلاء وهؤلاء كافرا فهو شيطان . وروى الضحاك عن ابن عباس : أن الجن هم ولد الجان وليسوا بشياطين ، وهم يؤمنون ، ومنهم المؤمن ومنهم الكافر ، والشياطين هم ولد إبليس لا يموتون إلا مع إبليس . واختلفوا في دخول مؤمني الجن الجنة ، على حسب الاختلاف في أصلهم . فمن زعم أنهم من الجان لا من ذرية إبليس قال : يدخلون الجنة بإيمانهم . ومن قال : إنهم من ذرية إبليس فلهم فيه قولان : أحدهما : وهو قول الحسن يدخلونها . الثاني : وهو رواية مجاهد لا يدخلونها وإن صرفوا عن النار . حكاه الماوردي . وقد مضى في سورة " الرحمن " {[15435]} عند قوله تعالى : " لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان " [ الرحمن : 56 ] بيان أنهم يدخلونها .

الخامسة- قال البيهقي في روايته : وسألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة فقال : ( لكم كل عظم ) دليل على أنهم يأكلون ويطعمون . وقد أنكر جماعة من كفرة الأطباء والفلاسفة الجن ، وقالوا : إنهم بسائط ، ولا يصح طعامهم ؛ اجتراء على الله وافتراء ، والقرآن والسنة ترد عليهم ، وليس في المخلوقات بسيط مركب مزدوج ، إنما الواحد الواحد{[15436]} سبحانه ، وغيره مركب وليس بواحد كيفما تصرف حاله . وليس يمتنع أن يراهم النبي صلى الله عليه وسلم في صورهم كما يرى الملائكة . وأكثر ما يتصورون لنا في صور الحيات ، ففي الموطأ : أن رجلا حديث عهد بعرس استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار أن يرجع إلى أهله . . . الحديث ، وفيه : فإذا حية عظيمة منطوية على الفراش ، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها . وذكر الحديث . وفي الصحيح أنه عليه السلام قال : ( إن لهذه البيوت عوامر ، فإذا رأيتم منها شيئا فحرجوا عليها ثلاثا ، فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر ) . وقال : ( اذهبوا فادفنوا صاحبكم{[15437]} ) وقد مضى هذا المعنى في سورة " البقرة " {[15438]} وبيان التحريج عليهن . وقد ذهب قوم إلى أن ذلك مخصوص بالمدينة ؛ لقوله في الصحيح : ( إن بالمدينة جنا قد أسلموا ) . وهذا لفظ مختص بها فيختص بحكمها . قلنا : هذا يدل على أن غيرها من البيوت مثلها ؛ لأنه لم يعلل بحرمة المدينة ، فيكون ذلك الحكم مخصوصا بها ، وإنما علل بالإسلام ، وذلك عام في غيرها ، ألا ترى قوله في الحديث مخبرا عن الجن الذي لقي : ( وكانوا من جن الجزيرة ) ؛ وهذا بين يعضده قوله : ( ونهى عن عوامر البيوت ) وهذا عام . وقد مضى في سورة ( البقرة ) القول في هذا فلا معنى للإعادة .

قوله تعالى : " فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا " أي في فصاحة كلامه . وقيل : عجبا في بلاغة مواعظه . وقيل : عجبا في عظم بركته . وقيل : قرآنا عزيزا لا يوجد مثله . وقيل : يعنون عظيما .


[15416]:في الأصول (وحى)، والصواب ما أثبتناه، وهو موافق لما جاء في (تاج العروس: وحى) قال: وقرأ جؤية الأسدى: (قل أحي إلي)، ولم ينسب القراءة لابن أبي عبلة.
[15417]:لفظ "إشاح" ساقط من الأصل المطبوع.
[15418]:اللفظ لمسلم، وأما ا الترمذي ففي لفظه زيادة.
[15419]:كذا في أ، ح، ط وهو الصواب.
[15420]:في ح: "إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى قرآنا عجبا". .. الخ.
[15421]:في ح: "ويسجدون معه . . . ".
[15422]:كلمة "فيها" ساقطة من الأصل المطبوع.
[15423]:كلمة "الأمر" ساقطة من الأصل المطبوع.
[15424]:في ط "عن" في موضع "من".
[15425]:كلمة "الحدث" ساقطة من الأصل المطبوع.
[15426]:لم نجد نصيبين التي ذكرها المؤلف في معجم ما استعجم للبكري ولا في معجم البلدان لياقوت، ولا فيما نقله صاحب تاج العروس عن ياقوت.
[15427]:راجع جـ 16 ص 211.
[15428]:في التاج: استطير فلان: ذعر.
[15429]:شعب أبي دب يقال فيه مدفن آمنة بنت وهب أم النبي صلى الله عليه وسلم.
[15430]:يحدرون الحجارة، بضم الدال وكسرها: يحطونها من علو إلى سفل.
[15431]:الزط: جنس من الهنود، لونهم ضارب إلى السواد.
[15432]:المكاكي: جمع مكوك وهو طاس يشرب فيه أعلاه ضيق ووسطه واسع، وميكال معروف لأهل العراق بهذه الصفة أيضا. ولعله من باب قول العرب: ضرب مكوك رأسه، على التشبيه.
[15433]:راجع جـ ص 15 فما.
[15434]:راجع جـ 8 ص 259 فما.
[15435]:راجع جـ 17 ص 181.
[15436]:الواحد الواحد: كذا في بعض الأصول، وفي بعضها بلا تكرار. وفي الشوكاني: "إنما الواحد الله سبحانه".
[15437]:هذا ينبغي أن يكون قبل الحديث السابق له، كما في ابن العربي.
[15438]:راجع جـ ص 315.