في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{رَحۡمَةٗ مِّن رَّبِّكَۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} (6)

وكان ذلك كله رحمة من الله بالبشر إلى يوم الدين :

( رحمة من ربك إنه هو السميع العليم ) . .

وما تتجلى رحمة الله بالبشر كما تتجلى في تنزيل هذا القرآن ، بهذا اليسر ، الذي يجعله سريع اللصوق بالقلب ، ويجعل الاستجابة له تتم كما تتم دورة الدم في العروق . وتحول الكائن البشري إلى إنسان كريم ، والمجتمع البشري إلى حلم جميل ، لولا أنه واقع تراه العيون !

إن هذه العقيدة - التي جاء بها القرآن - في تكاملها وتناسقها - جميلة في ذاتها جمالاً يحبّ ويعشق ؛ وتتعلق به القلوب ! فليس الأمر فيها أمر الكمال والدقة وأمر الخير والصلاح . فإن هذه السمات فيها تظل ترتفع وترتفع حتى يبلغ الكمال فيها مرتبة الجمال الحبيب الطليق . الجمال الذي يتناول الجزئيات كلها بأدق تفصيلاتها ، ثم يجمعها ، وينسقها ، ويربطها كلها بالأصل الكبير .

( رحمة من ربك )نزل بها هذا القرآن في الليلة المباركة . . ( إنه هو السميع العليم ) . يسمع ويعلم ، وينزل ما ينزل للناس على علم وعلى معرفة بما يقولون وما يعملون ، وما يصلح لهم ويصلحون به من السنن والشرائع والتوجيه السليم .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{رَحۡمَةٗ مِّن رَّبِّكَۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} (6)

و{ رحمة من ربّك } مفعول له من { إنَّا كنّا مرسلين } أي كنّا مرسلين لأجل رحمتنا ، أي بالعباد المرسل إليهم لأن الإرسال بالإنذار رحمة بالناس لِيتَجنَبوا مهاوي العذاب ويكتسبوا مكاسب الثواب ، قال تعالى : { وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين } [ الأنبياء : 107 ] . ويجوز أن يكون { رحمة } حالاً من الضمير المنصوب في { أنزلناه } .

وإيراد لفظ الربّ في قوله : { من ربك } إظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقول : رحمة منا . وفائدة هذا الإظهار الإشعار بأن معنى الربوبية يستدعي الرحمة بِالمَرْبُوبينَ ثم إضافة ( ربّ ) إلى ضمير الرّسول صلى الله عليه وسلم صرف للكلام عن مواجهة المشركين إلى مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم بالخطاب لأنه الذي جرى خطابهم هذا بواسطته فهو كحاضر معهم عند توجيه الخطاب إليهم فيصرف وجه الكلام تارة إليه كما في قوله : { يوسف أعْرِض عن هذا واستغفري لذنبكِ } [ يوسف : 29 ] وهذا لقصد التنويه بشأنه بعد التنويه بشأن الكتاب الذي جاء به .

وإضافة الربّ إلى ضمير الرّسول صلى الله عليه وسلم ليتوصل إلى حظ له في خلال هذه التشريعات بأن ذلك كله من ربّه ، أي بواسطته فإنه إذا كان الإرسال رحمة كان الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة قال تعالى : { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } [ الأنبياء : 107 ] ، ويعلم من كونه ربّ الرسول صلى الله عليه وسلم أنه رب الناس كلهم إذ لا يكون الرّب رب بعض الناس دون بعض فأغنى عن أن يقول : رحمة من ربّك وربهم ، لأن غرض إضافة رب إلى ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم يأبى ذلك ، ثم سيصرح بأنه ربّهم في قوله { ربّكم ورب آبائكم الأولين } [ الدخان : 8 ] وهو مقام آخر سيأتي بيانه .

وجملة { إنه هو السميع العليم } تعليل لجملة { إنا كنّا مرسلين رحمة من ربّك } أي كنا مرسلين رحمة بالناس لأنه عَلم عبادة المشركين للأصنام وعلم إغواء أيمة الكفر للأمم وعلم ضجيج الناس من ظلم قويّهم ضعيفَهم وعلم ما سوى ذلك من أقوالهم فأرسل الرُسل لتقويمهم وإصلاحهم وعَلم أيضاً نوايا الناس وأفعالهم وإفسادهم في الأرض فأرسل الرّسل بالشرائع لكف الناس عن الفساد وإصلاح عقائدهم وأعمالهم ، فأشير إلى علم النوع الأول بوصف { السميع } لأن السميع هو الذي يعلم الأقوال فلا يخفى عليه منها شيء . وأشير إلى علم النّوع الثاني بوصف { العليم } الشامل لجميع المعلومات . وقدم { السميع } للاهتمام بالمسموعات لأنّ أصل الكفر هو دعاء المشركين أصنامهم .

واعلم أن السميع والعليم تعليلان لجملة { إنا كنا مرسلين } بطريق الكناية الرمزية لأن علة الإرسال في الحقيقة هي إرادة الصلاح ورحمة الخلق . وأما العلم فهو الصفة التي تجري الإرادة على وفقه ، فالتعليل بصفة العلم بناء على مقدمة أخرى وهي أن الله تعالى حكيم لا يحب الفساد ، فإذا كان لا يحب ذلك وكان عليماً بتصرفات الخلق كان علمه وحكمته مقتضيين أن يرسل للناس رسلاً رحمةً بهم . وضمير الفصل أفاد الحصر ، أي هو السميع العليم لا أصنامكم التي تدعونها . وفي هذا إيماء إلى الحاجة إلى إرسال الرّسول إليهم بإبطال عبادة الأصنام .

وفي وصف { السميع العليم } تعريض بالتهديد .