في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطۡمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكۡرِ ٱللَّهِۗ أَلَا بِذِكۡرِ ٱللَّهِ تَطۡمَئِنُّ ٱلۡقُلُوبُ} (28)

19

ثم يرسم صورة شفيفة للقلوب المؤمنة . في جو من الطمأنينة والأنس والبشاشة والسلام :

( الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ) . .

تطمئن بإحساسها بالصلة بالله ، والأنس بجواره ، والأمن في جانبه وفي حماه . تطمئن من قلق الوحدة ، وحيرة الطريق . بإدراك الحكمة في الخلق والمبدأ والمصير . وتطمئن بالشعور بالحماية من كل اعتداء ومن كل ضر ومن كل شر إلا بما يشاء ، مع الرضى بالابتلاء والصبر على البلاء . وتطمئن برحمته في الهداية والرزق والستر في الدنيا والآخرة :

( ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) . .

ذلك الاطمئنان بذكر الله في قلوب المؤمنين حقيقة عميقة يعرفها الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم ، فاتصلت بالله . يعرفونها ، ولا يملكون بالكلمات أن ينقلوها إلا الآخرين الذين لم يعرفوها ، لأنها لا تنقل بالكلمات ، إنما تسري في القلب فيستروحها ويهش لها ويندى بها ويستريح إليها ويستشعر الطمأنينة والسلام ، ويحس أنه في هذا الوجود ليس مفردا بلا أنيس . فكل ما حوله صديق ، إذ كل ما حوله من صنع الله الذي هو في حماه .

وليس أشقى على وجه هذه الأرض ممن يحرمون طمأنينة الأنس إلى الله . ليس أشقى ممن ينطلق في هذه الأرض مبتوت الصلة بما حوله في الكون ، لأنه انفصم من العروة الوثقى التي تربطه بما حوله في الله خالق الكون . ليس أشقى ممن يعيش لا يدري لم جاء ? ولم يذهب ? ولم يعاني ما يعاني في الحياة ? ليس أشقى ممن يسير في الأرض يوجس من كل شيء خيفة لأنه لا يستشعر الصلة الخفية بينه وبين كل شيء في هذا الوجود . ليس أشقى في الحياة ممن يشق طريقه فريدا وحيدا شاردا في فلاة ، عليه أن يكافح وحده بلا ناصر ولا هاد ولا معين .

وإن هناك للحظات في الحياة لا يصمد لها بشر إلا أن يكون مرتكنا إلى الله ، مطمئنا إلى حماه ، مهما أوتي من القوة والثبات والصلابة والاعتداد . . ففي الحياة لحظات تعصف بهذا كله ، فلا يصمد لها إلا المطمئنون بالله :

( ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) . .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطۡمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكۡرِ ٱللَّهِۗ أَلَا بِذِكۡرِ ٱللَّهِ تَطۡمَئِنُّ ٱلۡقُلُوبُ} (28)

ثم استفتح عز وجل الإخبار بأن طمأنينة القلوب بذكر الله تعالى . . وفي هذا الإخبار حض وترغيب في الإيمان ، والمعنى : أن بهذا تقع الطمأنينة لا بالآيات المقترحة ، بل ربما كفر بعدها ، فنزل العذاب كما سلف في بعض الأمم .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطۡمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكۡرِ ٱللَّهِۗ أَلَا بِذِكۡرِ ٱللَّهِ تَطۡمَئِنُّ ٱلۡقُلُوبُ} (28)

استئناف اعتراضي مناسبتهُ المُضادةُ لحال الذين أضلهم الله ، والبيانُ لحال الذين هداهم مع التنبيه على أن مثال الذين ضلوا هو عدم اطمئنان قلوبهم لذكر الله ، وهو القرآن ، لأن قولهم : { لولا أنزل عليه آية من ربه } يتضمن أنهم لم يعدوا القرآن آية من الله ، ثم التصريح بجنس عاقبة هؤلاء ، والتعريض بضد ذلك لأولئك ، فذكرها عقب الجملة السابقة يفيد الغرضين ويشير إلى السببين . ولذلك لم يجعل { الذين آمنوا } بدلاً من { من أناب } [ الرعد : 27 ] لأنه لو كان كذلك لم تعطف على الصلة جملة { وتطمئن قلوبهم } ولا عطف { وعملوا الصالحات } على الصلة الثانية . ف { الذين آمنوا } الأول مبتدأ ، وجملة { ألا بذكر اللَّه تطمئن القلوب } معترضة و { الذين آمنوا } الثاني بدل مطابق من { الذين آمنوا } الأول ، وجملة { طوبى لهم } خبر المبدأ .

والاطمئنان : السكون ، واستعير هنا لليقين وعدم الشك ، لأن الشك يستعار له الاضطراب . وتقدم عند قوله تعالى : { ولكن ليطمئن قلبي } في سورة البقرة ( 260 ) .

و { ذكر الله } يجوز أن يراد به خشية الله ومراقبته بالوقوف عند أمره ونهيه . ويجوز أن يراد به القرآن قال : { وإنه لذكر لك ولقومك } [ سورة الزخرف : 44 ] ، وهو المناسب قولهم : { لولا أنزل عليه آية من ربه } . وعلى هذا المعنى جاء قوله تعالى في سورة الزمر : { فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله } [ سورة الزمر : 22 ] ، أي للذين كان قد زادهم قسوة قلوب ، وقوله في آخرها : { ثم تلين جُلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله } [ سورة الزمر : 23 ] .

والذكر من أسماء القرآن ، ويجوز أن يراد ذكر الله باللسان فإن إجراءه على اللسان ينبه القلوب إلى مراقبته .

وهذا وصف لحسن حال المؤمنين ومقايستهِ بسوء حالة الكافرين الذين غمر الشك قلوبهم ، قال تعالى : { بل قلوبهم في غمرة من هذا } [ سورة المؤمنون : 63 ] .

واختير المضارع في { تطمئن } مرتين لدلالته على تجدد الاطمئنان واستمراره وأنه لا يتخلله شك ولا تردد .

وافتتحت جملة { إلا بذكر الله } بحرف التنبيه اهتماماً بمضمونها وإغراء بوعيه . وهي بمنزلة التذييل لما في تعريف { القلوب } من التعميم . وفيه إثارة الباقين على الكفر على أن يتسموا بسمة المؤمنين من التدبير في القرآن لتطمئن قلوبهم ، كأنه يقول : إذا علمتم راحة بال المؤمنين فماذا يمنعكم بأن تكونوا مثلهم فإن تلك في متناولكم لأن ذكر الله بمسامعكم .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطۡمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكۡرِ ٱللَّهِۗ أَلَا بِذِكۡرِ ٱللَّهِ تَطۡمَئِنُّ ٱلۡقُلُوبُ} (28)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم نعتهم، فقال: {الذين ءامنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله} يقول: وتسكن قلوبهم بالقرآن، يعني: بما في القرآن من الثواب والعقاب، يقول الله تعالى، {ألا بذكر الله تطمئن القلوب}، يقول: ألا بالقرآن تسكن القلوب...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره:"وَيهْدِي إلَيْهِ مَنْ أنَابَ" بالتوبة "الذين آمنوا"، والذين آمنوا في موضع نصب ردّ على "مَن"، لأن الذين آمنوا هم من أناب ترجم بها عنها.

وقوله: "وَتَطْمَئِنّ قَلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللّهِ "يقول: وتسكن قلوبهم وتستأنس بذكر الله... وقوله: "ألا بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنّ القُلُوبُ" يقول: ألا بذكر الله تسكن وتستأنس قلوب المؤمنين...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

هو وصف المقبل المنيب إلى ذكر الله؛ تسكن وتطمئن قلوبهم بالتأمل والتفكر فيه... (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله) تفرح وتستبشر قلوب الذين آمنوا بذكر الله، ألا بذكر الله تستبشر، وتفرح قلوب الذين آمنوا؛ لأنه ذكر في الكفرة الفرح بالحياة الدنيا، وهو قوله: (وفرحوا بالحياة الدنيا) [الآية: 26] واطمأنوا بها، وذكر في المؤمنين الاستبشار والفرح بذكر الله،... وقوله تعالى: (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله) يخرج على وجهين: أحدهما: (وتطمئن قلوبهم بذكر الله) لهم، وذكر الله لهم التوفيق والتسديد والعصمة ونحو ذلك. والثاني: (وتطمئن قلوبهم بذكر الله) وذكرهم الله ذكر إحسانه وعظمته وجلاله ونحو ذلك...

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

{الذين ءامنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله} فيه أربعة أوجه: أحدها: بذكر الله بأفواههم، قاله قتادة. الثاني: بنعمة الله عليهم. الثالث: بوعد الله لهم، ذكره ابن عيسى. الرابع: بالقرآن، قاله مجاهد. {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: بطاعة الله. الثاني: بثواب الله. الثالث: بوعد الله تعالى لهم...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

... الذكر حضور المعنى للنفس... ووصف الله تعالى -ههنا- المؤمن بأنه يطمئن قلبه إلى ذكر الله، ووصفه في موضع آخر بأنه إذا ذكر الله وجل قلبه، لأن المراد بالأول أنه يذكر ثوابه وإنعامه، فيسكن إليه، والثاني يذكر عقابه وانتقامه فيخافه ويجل قلبه...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

قومٌ اطمأنت قلوبُهم بذكرهم الله، وفي الذكر وَجَدُوا سَلْوَتَهم، وبالذكر وصلوا إلى صفوتهم. وقومٌ اطمأنت قلوبُهم بذكر الله فَذَكَرَهُمْ الله -سبحانه- بلطفه، وأَثْبَت الطمأنينةَ في قلوبهم على وجه التخصيص لهم. ويقال إذا ذكروا أَنَّ الله ذَكَرَهم استروحت قلوبُهم، واستبشرت أرواحُهم، واستأنست أسرارُهم، قال تعالى: {أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ} لِمَا نالت بِذِكْرِهِ من الحياة، وإذا كان العبدُ لا يطمئن قلبُه بذكر الله، فذلك لِخَللٍ في قلبه، فليس قلبه بين القلوب الصحيحة.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله} بذكر رحمته ومغفرته بعد القلق والاضطراب من خشيته، كقوله: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله} [الزمر: 23] أو تطمئن بذكر دلائله الدالة على وحدانيته، أو تطمئن بالقرآن لأنه معجزة بينة تسكن القلوب وتثبت اليقين فيها...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

ثم استفتح عز وجل الإخبار بأن طمأنينة القلوب بذكر الله تعالى.. وفي هذا الإخبار حض وترغيب في الإيمان، والمعنى: أن بهذا تقع الطمأنينة لا بالآيات المقترحة، بل ربما كفر بعدها، فنزل العذاب كما سلف في بعض الأمم.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أن قوله: {الذين آمنوا} بدل من قوله: {من أناب} قال ابن عباس: يريد إذا سمعوا القرآن خشعت قلوبهم واطمأنت.

فإن قيل: أليس أنه تعالى قال في سورة الأنفال: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} والوجل ضد الاطمئنان، فكيف وصفهم ههنا بالاطمئنان؟ والجواب من وجوه: الأول، أنهم إذا ذكروا العقوبات ولم يأمنوا من أن يقدموا على المعاصي فهناك وصفهم بالوجل، وإذا ذكروا وعده بالثواب والرحمة، سكنت قلوبهم إلى ذلك، وأحد الأمرين لا ينافي الآخر، لأن الوجل هو بذكر العقاب والطمأنينة بذكر الثواب، ويوجد الوجل في حال فكرهم في المعاصي، وتوجد الطمأنينة عند اشتغالهم بالطاعات. الثاني: أن المراد أن علمهم بكون القرآن معجزا يوجب حصول الطمأنينة لهم في كون محمد صلى الله عليه وسلم نبيا حقا من عند الله. أما شكهم في أنهم أتوا بالطاعات على سبيل التمام والكمال فيوجب حصول الوجل في قلوبهم. الثالث: أنه حصلت في قلوبهم الطمأنينة في أن الله تعالى صادق في وعده ووعيده، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم صادق في كل ما أخبر عنه، إلا أنه حصل الوجل والخوف في قلوبهم أنهم هل أتوا بالطاعة الموجبة للثواب أم لا، وهل احترزوا عن المعصية الموجبة للعقاب أم لا.

... فالقلب كلما توجه إلى مطالعة عالم الأجسام حصل فيه الاضطراب والقلق والميل الشديد إلى الاستيلاء عليها والتصرف فيها، أما إذا توجه القلب إلى مطالعة الحضرة الإلهية حصل فيه أنوار الصمدية والأضواء الإلهية، فهناك يكون ساكنا فلهذا السبب قال: {ألا بذكر الله تطمئن القلوب}.

الوجه الثاني: أن القلب كلما وصل إلى شيء فإنه يطلب الانتقال منه إلى حالة أخرى أشرف منها، لأنه لا سعادة في عالم الأجسام إلا وفوقها مرتبة أخرى في اللذة والغبطة. أما إذا انتهى القلب والعقل إلى الاستسعاد بالمعارف الإلهية والأضواء الصمدية بقي واستقر فلم يقدر على الانتقال منه البتة، لأنه ليس هناك درجة أخرى في السعادة أعلى منها وأكمل؛ فلهذا المعنى قال: {ألا بذكر الله تطمئن القلوب}.

التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :

(الطمأنينة): سكون القلب إلى الشيء، وعدم اضطرابه وقلقه، ومنه الأثر المعروف: «الصدق طمأنينة والكذب ريبة» أي الصدق يطمئن إليه قلب السامع، ويجد عنده سكونا إليه، والكذب يوجب له اضطرابا وارتيابا.

ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «البر ما اطمأن إليه القلب» أي سكن إليه وزال عنه اضطرابه وقلقه وفي «ذكر الله» ها هنا قولان:

أحدهما: أنه ذكر العبد ربه، فإنه يطمئن إليه قلبه، ويسكن، فإذا اضطرب القلب وقلق فليس له ما يطمئن به سوى ذكر الله.

ثم اختلف أصحاب هذا القول فيه، فمنهم من قال: هذا في الحلف واليمين، إذا حلف المؤمن على شيء سكنت قلوب المؤمنين إليه، واطمأنت، ويروى هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما.

ومنهم من قال: بل هو ذكر العبد ربه بينه وبينه، يسكن إليه قلبه ويطمئن.

والقول الثاني: أن ذكر الله هاهنا القرآن، وهو ذكره الذي أنزله على رسوله به طمأنينة قلوب المؤمنين، فإن القلب لا يطمئن إلا بالإيمان واليقين. ولا سبيل إلى حصول الإيمان واليقين إلا من القرآن. فإن سكون القلب وطمأنينته من يقينه، واضطرابه وقلقه من شكه، والقرآن هو المحصل لليقين الدافع للشكوك والظنون والأوهام، فلا تطمئن قلوب المؤمنين إلا به، وهذا القول هو المختار.

وكذلك القولان أيضا في قوله تعالى: {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين} [الزخرف: 36].

والصحيح: أنه ذكره الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو كتابه من أعرض عنه قيض له شيطانا يضله ويصده عن السبيل. وهو يحسب أنه على هدى.

وكذلك القولان أيضا في قوله تعالى: {ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى} [طه: 124] والصحيح: أنه ذكره الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم وهو كتابه. ولهذا يقول المعرض عنه: {رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} [طه: 125. 126]...

وجعل الله سبحانه «الطمأنينة» في قلوب المؤمنين ونفوسهم، وجعل «الغبطة» و«المدحة» و«البشارة» بدخول الجنة لأهل الطمأنينة، فطوبى لهم وحسن مآب.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ثم أبدل منهم {الذين آمنوا} أي أوجدوا هذا الوصف {وتطمئن قلوبهم} أي تسكن وتستأنس إلى الدليل بعد الاضطراب بالشكوك لإيجادهم الطمأنينة بعد صفة الإيمان إيجاداً مستمراً دالاً على ثبات إيمانهم لترك العناد، وهذا المضارع في هذا التركيب مما لا يراد به حال ولا استقبال، إنما يراد به الاستمرار على المعنى مع قطع النظر عن الأزمنة {بذكر الله} الذي هو أعظم الآيات في أن المذكور مستجمع لصفات الكمال، فالآية من الاحتباك: ذكر المشيئة أولاً دال على حذفها ثانياً، وذكر الإنابة ثانياً دال على حذف ضدها أولاً. ولما كان ذلك موضع أن يقول المعاند: ومن يطمئن بذلك؟ قال: {ألا بذكر الله} أي الذي له الجلال والإكرام، لا بذكر غيره {تطمئن القلوب *} فتسكن عن طلب آية غيره... وذلك إشارة إلى أن من لم يطمئن به فليس له قلب فضلاً عن أن يكون في قلبه عقل، بل هو من الجمادات، أو إلى أن كل قلب يطمئن به، فمن أخبر عن قلبه بخلاف ذلك فهو كاذب معاند، ومن أذعن وعمل بموجب الطمأنينة فهو مؤمن...

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :

{الذين آمَنُواْ}... فالمراد بالذين آمنوا الذين صار أمرُهم إلى الإيمان كما في قوله تعالى: {هُدًى للْمُتَّقِينَ} [البقرة، الآية 2]... العدولُ إلى صيغة المضارعِ لإفادة دوامِ الاطمئنان وتجدّده حسبَ تجدّدِ الآيات وتعددها {أَلاَ بِذِكْرِ الله} وحده {تَطْمَئِنُّ القلوب} دون غيرِه من الأمور التي تميل إليها النفوسُ من الدنيويات، وهذا ظاهر، وأما سائرُ المعجزات فالقصرُ من حيث إنها ليست في إفادة الطُّمأنينة بالنسبة إلى من لم يشاهدْها بمثابة القرآنِ المجيدِ فإنه معجزةٌ باقية إلى يوم القيامة يشاهدها كلُّ أحد وتطمئن به القلوبُ كافة...

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

{أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} أي: حقيق بها وحريٌّ أن لا تطمئن لشيء سوى ذكره، فإنه لا شيء ألذ للقلوب ولا أشهى ولا أحلى من محبة خالقها، والأنس به ومعرفته، وعلى قدر معرفتها بالله ومحبتها له، يكون ذكرها له، هذا على القول بأن ذكر الله، ذكر العبد لربه، من تسبيح وتهليل وتكبير وغير ذلك. وقيل: إن المراد بذكر الله كتابه الذي أنزله ذكرى للمؤمنين، فعلى هذا معنى طمأنينة القلوب بذكر الله: أنها حين تعرف معاني القرآن وأحكامه تطمئن لها، فإنها تدل على الحق المبين المؤيد بالأدلة والبراهين، وبذلك تطمئن القلوب، فإنها لا تطمئن القلوب إلا باليقين والعلم، وذلك في كتاب الله، مضمون على أتم الوجوه وأكملها، وأما ما سواه من الكتب التي لا ترجع إليه فلا تطمئن بها، بل لا تزال قلقة من تعارض الأدلة وتضاد الأحكام...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(ألا بذكر الله تطمئن القلوب).. ذلك الاطمئنان بذكر الله في قلوب المؤمنين حقيقة عميقة يعرفها الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم، فاتصلت بالله. يعرفونها، ولا يملكون بالكلمات أن ينقلوها إلى الآخرين الذين لم يعرفوها، لأنها لا تنقل بالكلمات، إنما تسري في القلب فيستروحها ويهش لها ويندى بها ويستريح إليها ويستشعر الطمأنينة والسلام، ويحس أنه في هذا الوجود ليس مفردا بلا أنيس. فكل ما حوله صديق، إذ كل ما حوله من صنع الله الذي هو في حماه. وليس أشقى على وجه هذه الأرض ممن يحرمون طمأنينة الأنس إلى الله. ليس أشقى ممن ينطلق في هذه الأرض مبتوت الصلة بما حوله في الكون، لأنه انفصم من العروة الوثقى التي تربطه بما حوله في الله خالق الكون... وإن هناك للحظات في الحياة لا يصمد لها بشر إلا أن يكون مرتكنا إلى الله، مطمئنا إلى حماه، مهما أوتي من القوة والثبات والصلابة والاعتداد.. ففي الحياة لحظات تعصف بهذا كله، فلا يصمد لها إلا المطمئنون بالله: (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) ...

...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

معنى الاطمئنان سكون القلب واستقراره وأنسه إلى عقيدة لا تطفو إلى العقل ليناقشها من جديد...

وهكذا نجد أن من يقبل قدر الله فيه، ويذكر أن له رباً فوق كل الأسباب؛ فالاطمئنان يغمر قلبه أمام أي حدث مهما كان. وهكذا يطمئن القلب بذكر الله؛ وتهون كل الأسباب؛ لأن الأسباب إن عجزت؛ فلن يعجز المسبب...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{الَّذِينَ آمَنُواْ} بالله، ووعوا حقيقة الإيمان، وعرفوا موقع الله من وجود الكون والإنسان، وسيطرته المطلقة على مقدرات الأمور، فلا يوجد شيء إلاّ من خلال إرادته، فإذا أراد شيئاً كان، وإذا لم يرد لم يكن، ولا يملك أحد أن يتدخل في ما يريد أو في ما لا يريد، ومن خلال ذلك يشعر المؤمنون بالطمأنينة النفسية مع الله، من موقع الإيمان بقدرته ورحمته ورعايته وتدبيره، فلا مجال للشعور بالقلق والضياع والحيرة ونحوها من المشاعر النابعة من حالات الاهتزاز النفسي، أمام أحداث الحياة ومشاكلها، لأن الله هو الذي يتكفّل بحلّ ذلك كله، على أساس القاعدة الصلبة التي أقام عليها نظام الإنسان والحياة، وفتح له الآفاق التي يلجأ فيها إليه، ليرحمه ويلطف به، حتى في قضاياه الجزئية، ووعده بالاستجابة له، إذا دعاه، في حدود مصلحته في دنياه وآخرته، وكل شيء عنده بمقدار...

وليس المراد بالذكر هنا كما يظهر الذكر بالكلمة، بل المراد به الذكر في المواقف، حيث يعيش الإنسان الشعور بحضور الله في داخله، فلا يغيب عنه، في أيّ موقف من مواقف الاهتزاز أمام تحديات الحياة ومشاكلها، فيتماسك ويتوازن ويقوى ويشتد ويثبت أمام الله، ليحس بالثقة بين يديه...