في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ} (5)

ثم تبرز مصدر التعليم . . إن مصدره هو الله . منه يستمد الإنسان كل ما علم ، وكل ما يعلم . وكل ما يفتح له من أسرار هذا الوجود ، ومن أسرار هذه الحياة ، ومن أسرار نفسه . فهو من هناك . من ذلك المصدر الواحد ، الذي ليس هناك سواه .

وبهذا المقطع الواحد الذي نزل في اللحظة الأولى من اتصال الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] بالملأ الأعلى ، بهذا المقطع وضعت قاعدة التصور الإيماني العريضة . .

كل أمر . كل حركة . كل خطوة . كل عمل . باسم الله . وعلى اسم الله . باسم الله تبدأ . وباسم الله تسير . وإلى الله تتجه . وإليه تصير .

والله هو الذي خلق . وهو الذي علم . فمنه البدء والنشأة ، ومنه التعليم والمعرفة . . والإنسان يتعلم ما يتعلم ، ويعلم ما يعلم . . فمصدر هذا كله هو الله الذي خلق والذي علم . . ( علم الإنسان ما لم يعلم ) . .

وهذه الحقيقة القرآنية الأولى ، التي تلقاها قلب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في اللحظة الأولى هي التي ظلت تصرف شعوره ، وتصرف لسانه ، وتصرف عمله واتجاهه ، بعد ذلك طوال حياته . بوصفها قاعدة الإيمان الأولى .

قال الإمام شمس الدين أبو عبد الله محمد بن قيم الجوزية في كتابه : " زاد المعاد في هدى خير العباد " يلخص هدي رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في ذكر الله :

" كان النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أكمل الخلق ذكرا لله عز وجل . بل كان كلامه كله في ذكر الله وما والاه . وكان أمره ونهيه وتشريعه للأمة ذكرا منه لله ، وإخباره عن أسماء الرب وصفاته وأحكامه وأفعاله ووعده ووعيده ذكرا منه له ، وثناؤه عليه بآلائه وتمجيده وتحميده وتسبيحه ذكرا منه له ، وسؤاله ودعاؤه إياه ورغبته ورهبته ذكرا منه له . وسكوته وصمته ذكرا منه له بقلبه . فكان ذاكرا لله في كل أحيانه وعلى جميع أحواله . وكان ذكره لله يجري مع أنفاسه قائما وقاعدا وعلى جنبه ، وفي مشيته وركوبه ، وسيره ونزوله ، وظعنه وإقامته .

" وكان إذا استيقظ قال : الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور . وقالت عائشة كان إذا هب من الليل كبر عشرا ، وهلل عشرا ، ثم قال : اللهم إني أعوذ بك من ضيق الدنيا وضيق يوم القيامة عشرا ، ثم يستفتح الصلاة . وقالت أيضا : كان إذا استيقظ من الليل قال : لا إله إلا أنت سبحانك . اللهم أستغفرك لذنبي وأسألك رحمتك . اللهم زدني علما ، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني وهب لي من لدنك رحمة ، إنك أنت الوهاب " ذكرها أبو داود " . وأخبر أن من استيقظ من الليل فقال : " لا إله إلا الله وحده ، لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم قال : اللهم اغفر لي ، أو دعاء آخر استجيب له . فإن توضأ وصلى قبلت صلاته " ذكره البخاري " .

وقال ابن عباس عنه [ صلى الله عليه وسلم ] ليلة مبيته عنده : إنه لما استيقظ رفع رأسه للسماء ، وقال العشر الآيات الخواتيم من سورة آل عمران . . ( إن في خلق السماوات والأرض . . . الخ )ثم قال . . " اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والآرض ومن فيهن . ولك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن . ولك الحمد أنت الحق ، ووعدك الحق ، وقولك الحق ، ولقاؤك حق ، والجنة حق ، والنار حق ، والنبيون حق ، ومحمد حق ، والساعة حق . اللهم لك أسلمت ، وبك آمنت ، وعليك توكلت ، وإليك أنبت ، وبك خاصمت ، وإليك حاكمت ، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت . أنت إلهي لا إله إلا أنت ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم " .

" وقد قالت عائشة - رضي الله عنها - كان إذا قام من الليل قال : " اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السماوات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم " . وربما قالت : كان يفتتح صلاته بذلك .

" وكان إذا أوتر ختم وتره بعد فراغه بقوله : سبحان الله القدوس [ ثلاثا ] ويمد بالثالثة صوته .

" وكان إذا خرج من بيته يقول : بسم الله توكلت على الله ، اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل ، أو أزل ، أو أظلم أو أظلم ، أو أجهل ، أو يجهل علي " [ حديث صحيح ] .

" وقال [ صلى الله عليه وسلم ] من قال إذا خرج من بيته بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله يقال له : هديت وكفيت ووقيت وتنحى عنه الشيطان " [ حديث حسن ] .

" وقال ابن عباس عنه - ليلة مبيته عنده - : إنه خرج إلى صلاة الفجر وهو يقول : اللهم اجعل في قلبي نورا ، واجعل في لساني نورا ، واجعل في سمعي نورا ، واجعل في بصري نورا ، واجعل من خلفي نورا ، ومن أمامي نورا ، واجعل من فوقي نورا ، واجعل من تحتي نورا ، اللهم أعظم لي نورا " .

" وقال فضل بن مرزوق عن عطية العوفي ، عن أبي سعيد الخدري : قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " ما خرج رجل من بيته إلى الصلاة فقال : اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك ، وبحق ممشاي إليك ، فإني لم أخرج بطرا ولا أشرا ولا رياء ولا سمعة ، وإنما خرجت اتقاء سخطك ، وابتغاء مرضاتك ، أسألك أن تنقذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي ، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت . إلا وكل الله به سبعين ألف ملك يستغفرون له ، وأقبل الله عليه بوجهه حتى يقضي صلاته " .

وذكر أبو داود عنه [ صلى الله عليه وسلم ] أنه كان إذا دخل المسجد قال أعوذ بالله العظيم ، وبوجهه الكريم ، وسلطانه القديم ، من الشيطان الرجيم . فإذا قال ذلك قال الشيطان : حفظ مني سائر اليوم " .

وقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " إذا دخل أحدكم المسجد فليصل وليسلم على النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وليقل : اللهم افتح لي أبواب رحمتك ، فإذا خرج فليقل : اللهم إني أسألك من فضلك " . . " وذكر عنه أنه كان إذا دخل المسجد صلى على محمد وآله وسلم ، ثم يقول : اللهم اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب رحمتك " . فإذا خرج صلى على محمد وآله وسلم ، ثم يقول : اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي باب فضلك .

" وكان إذا صلى الصبح جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس يذكر الله عز وجل . وكان يقول إذا أصبح : اللهم بك أصبحنا ، وبك أمسينا ، وبك نحيا ، وبك نموت ، وإليك النشور . " [ حديث صحيح ] . " وكان يقول : " أصبحنا وأصبح الملك لله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير . رب أسألك خير ما في هذا اليوم وخير ما بعده ، وأعوذ بك من شر هذا اليوم ، وشر ما بعده ؛ رب أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر ، رب أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر . وإذا أمسى قال : أمسينا وأمسى الملك لله . . " الخ [ ذكره مسلم ] .

" وقال له أبو بكر الصديق رضي الله عنه - مرني بكلمات أقولهن إذا أصبحت وإذا أمسيت . قال : قل : اللهم فاطر السماوات والآرض ، عالم الغيب والشهادة ، رب كل شيء مليكه ومالكه . أشهد أن لا إله إلا أنت ، أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه ، وأن أقترف على نفسي سوءا أو أجره إلى مسلم . قال : قلها إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك " [ حديث صحيح ] . " ثم ذكر أحاديث كثيرة في هذا الباب " .

. . . " وكان [ صلى الله عليه وسلم ] إذا استجد ثوبا سماه باسمه عمامة أو قميصا أو رداء . ثم يقول : " اللهم لك الحمد ، أنت كسوتنيه ، أسألك خيره وخير ما صنع له ، وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له " . [ حديث صحيح ] .

" ويذكر عنه [ صلى الله عليه وسلم ] أنه كان يقول إذا انقلب إلى بيته : " الحمد لله الذي كفاني وآواني ، والحمد لله الذي أطعمني وسقاني ، والحمد لله الذي من علي . أسألك أن تجيرني من النار " .

" وثبت عنه في الصحيحين أنه كان يقول عند دخوله الخلاء : " اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث " .

وكان إذا خرج من الخلاء قال : " غفرانك " ويذكر عنه أنه كان يقول : " الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني " [ ذكره ابن ماجة ] .

" وثبت عنه أنه وضع يده في الإناء الذي فيه الماء ، ثم قال للصحابة : " توضأوا باسم الله " .

" ويذكر عنه أنه كان يقول " عند رؤية الهلال " : " اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان ، والسلامة والإسلام ، ربي وربك الله " [ قال الترمذي حديث حسن ] .

" وكان إذا وضع يده في الطعام قال : باسم الله . ويأمر الآكل بالتسمية ويقول : إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله تعالى ، فإن نسي أن يذكر اسم الله في أوله فليقل : باسم الله في أوله وآخره " [ حديث صحيح ] .

وهكذا كانت حياته كلها [ صلى الله عليه وسلم ] بدقائقها متأثرة بهذا التوجيه الإلهي الذي تلقاه في اللحظة الأولى . وقام به تصوره الإيماني على قاعدته الأصيلة العريقة . .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ} (5)

{ علم الإنسان مالم يعلم } من أنواع الهدى والبيان . وقيل : علم آدم الأسماء كلها . وقيل : الإنسان ها هنا محمد صلى الله عليه وسلم ، بيانه : { وعلمك ما لم تكن تعلم }( النساء- 113 ) .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ} (5)

قوله تعالى : { علم الإنسان ما لم يعلم }

قيل : " الإنسان " هنا آدم عليه السلام . علمه أسماء كل شيء ، حسب ما جاء به القرآن في قوله تعالى : " وعلم آدم الأسماء كلها " {[16208]} . فلم يبق شيء إلا وعلم سبحانه آدم اسمه بكل لغة ، وذكره آدم للملائكة كما علمه . وبذلك ظهر فضله ، وتبين قدره ، وثبتت نبوته ، وقامت حجة اللّه على الملائكة وحجته ، وامتثلت الملائكة الأمر لما رأت من شرف الحال ، ورأت من جلال القدرة ، وسمعت من عظيم الأمر . ثم توارثت ذلك ذريته خلفا بعد سلف ، وتناقلوه قوما عن قوم . وقد مضى هذا في سورة " البقرة " {[16209]}مستوفى والحمد لله . وقيل : " الإنسان " هنا الرسول محمد صلى اللّه عليه وسلم . دليله قوله تعالى : " وعلمك ما لم تكن تعلم " {[16210]} [ النساء : 113 ] . وعلى هذا فالمراد ب " علمك " المستقبل{[16211]} ، فإن هذا من أوائل ما نزل . وقيل : هو عام لقوله تعالى : " والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا " {[16212]} [ النحل : 78 ] .


[16208]:آية 31 سورة البقرة.
[16209]:راجع جـ 1 ص 279 طبعة ثانية.
[16210]:آية 113 سورة النساء.
[16211]:في نسخة: المشكل.
[16212]:آية 78 سورة النحل.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ} (5)

ولما نبه بذلك على ما في الكتابة من المنافع التي لا يحيط بها غيره سبحانه وتعالى ، لأنها انبنت عليها استقامة أمور الدنيا والدين في الدنيا والآخرة ، وهي كافية في الدلالة على دقيق حكمته تعالى ولطيف تدبيره ، زاد ذلك عظمة على وجه يعم غيره فقال : { علّم } أي العلم الضروري والنظري { الإنسان } أي الذي من شأنه الأنس بما هو فيه لا ينتقل إلى غيره ؛ بل ينساه إن لم يلهمه ربه إياه { ما لم يعلم * } أي بلطفه وحكمته لينتظم به حاله في دينه من الكتاب والسنة ودنياه من المعاملات والصنائع ، فيفيض عليه من علمه اللدني الذي لا سبب له ظاهر ما يعرف به ترتيب المقدمات بالحدود والوسطى ، فيعلم النتائج ، وما يعرف به الحدسيات ، وذلك بعد خلق القوى ، ونصب الدلائل ، وإنزال الآيات ، ولو كان ذلك بالأسباب فقط لتساوى الناس في مدة التعليم ، وفي أصل المعلوم ، كما تساووا في مدة الحمل وأصل الإنسانية ، وقد ذكر سبحانه مبدأ الإنسان ومنتهاه بنقله من أخس الحالات إلى أعلاها تقريراً لربوبيته ، وتحقيقاً لأكرميته ، قال الملوي : ولو كان شيء من العطاء والنعم أشرف من العلم لذكره عقب صفة الأكرمية - انتهى ، وفي ذلك إشارة إلى مزيد كرم العلماء بالتعليم .

وفي الآية الإشارة إلى مطالعة عالمي الخلق والأمر ، قال الرازي : وفي كل من العالمين خصوص وعموم - انتهى ، فالمعنى أنه يعلمك أيها النبي الكريم وإن كنت أمياً لا تعلم الآن شيئاً كما علم بالقلم من لم يكن يعلم ، فتكون أنت - بما أشارت إليه صفة الأكرمية على ما أنت فيه من الأمية - أعلم من أهل الأقلام - وأعلى من كل مقام سام .