في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞هَيۡهَاتَ هَيۡهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} (36)

23

ثم يزيد المترفون هنا إنكار البعث بعد الموت والبلى ؛ ويعجبون من هذا الرسول الذي ينبئهم بهذا الأمر الغريب .

أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون ? هيهات هيهات لما توعدون : إن هي إلا حياتنا الدنيا ، نموت و نحيا ، وما نحن بمبعوثين . .

ومثل هؤلاء لا يمكن أن يدركوا حكمة الحياة الكبرى ؛ ودقة التدبير في أطوارها للوصول بها إلى غايتها البعيدة . هذه الغاية التي لا تتحقق بكمالها في هذه الأرض . فالخير لا يلقى جزاءه الكامل في الحياة الدنيا . والشر كذلك . إنما يستكملان هذا الجزء هنالك ، حيث يصل المؤمنون الصالحون إلى قمة الحياة المثلى ، التي لا خوف فيها ولا نصب ، ولا تحول فيها ولا زوال - إلا أن يشاء الله - ويصل المرتكسون المنتكسون إلى درك الحياة السفلية التي تهدر فيها آدميتهم ، ويرتدون فيها أحجارا ، أو كالأحجار !

مثل هؤلاء لا يدركون هذه المعاني ؛ ولا يستدلون من أطوار الحياة الأولى - التي سبقت في السورة - على أطوارها الأخيرة ؛ ولا ينتبهون إلى أن القوة المدبرة لتلك الأطوار لا تقف بالحياة عند مرحلة الموت والبلى كما يظنون . . لذلك هم يستعجبون ويعجبون من ذلك الذي يعدهم أنهم مخرجون ؛ ويستبعدون في جهالة أن ذلك يكون ؛ ويجزمون في تبجح بأن ليس هنالك إلا حياة واحدة وموت واحد . يموت جيل ويحيا بعده جيل . فأما الذين ماتوا ، وصاروا ترابا وعظاما ، فهيهات هيهات الحياة لهم ، كما يقول ذلك الرجل الغريب !

وهيهات هيهات البعث الذي يعدهم به ، وقد صاروا عظاما ورفاتا !

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{۞هَيۡهَاتَ هَيۡهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} (36)

{ هيهات هيهات } بعد التصديق أو الصحة . { لما توعدون } أو بعدما توعدون ، واللام للبيان كما في { هيت لك } كأنهم لما صوتوا بكلمة الاستعباد قيل : فما له هذا الاستعباد ؟ قالوا : { لما توعدون } . وقيل { هيهات } بمعنى البعد ، وهو مبتدأ خبره { لما توعدون } ، وقرىء بالفتح منونا للتكبير ، وباللضم منونا على أنه جمع هيهة وغير منون تشبيها بقبل وبالكسر على الوجهين ، وبالسكون على لفظ الوقف وبإبدال التاء هاء .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞هَيۡهَاتَ هَيۡهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} (36)

جملة { هيهات } بيان لجملة { يَعِدُكم } فلذلك فُصلت ولم تعطف .

و { هيهات } كلمة مبنية على فتح الآخر وعلى كسره أيضاً . وقرأها الجمهور بالفتح . وقرأها أبو جعفر بالكسر . وتدل على البعد . وأكثر ما تستعمل مكررة مرتين كما في هذه الآية أو ثلاثاً كما جاء في شعر لحُميد الأرقط وجرير يأتيان .

واختلف فيها أهي فعل أم اسم ؛ فجمهور النحاة ذهبوا إلى أن ( هيهات ) اسم فعل للماضي من البُعد ، فمعنى هيهات كذا : بعُد . فيكون ما يلي ( هيهات ) فاعلاً . وقيل هي اسم للبُعد ، أي فهي مصدر جامد وهو الذي اختاره الزجاج في « تفسيره » .

قال الراغب : وقال البعض : غلط الزجاج في « تفسيره » واستهواه اللام في قوله تعالى : { هيهات هيهات لما توعدون } .

وقيل : هيهات ظرف غير متصرف ، وهو قول المبرد . ونسبه في « لسان العرب » إلى أبي علي الفارسي . قال : قال ابن جني : كان أبو علي يقول في هيهات : أنا أفتي مرة بكونها اسماً سمي به الفعل مثل صَهْ ومَهْ ، وأُفتي مرة بكونها ظرفاً على قدر ما يحضرني في الحال .

وفيها لغات كثيرة وأفصحها أنها بهاءين وتاء مفتوحة فتحة بناء ، وأن تاءها تثبت في الوقف وقيل يوقف عليها هاء ، وأنها لا تنون تنوين تنكير .

وقد ورد ما بعد ( هيهات ) مجروراً باللام كما في هذه الآية . وورد مرفوعاً كما في قول جرير :

فهيهاتَ هيهاتَ العقيقُ وأهلُهُ *** وهيهاتَ خِلّ بالعقيق نحاوله

وورد مجروراً ب ( مِن ) في قول حميد الأرقط :

هيهاتِ من مُصبَحها هيهاتِ *** ههياتِ حِجْرٌ من صُنَيْبِعَاتِ

فالذي يتضح في استعمال ( هيهات ) أن الأصل فيما بعدها أن يكون مرفوعاً على تأويل ( هيهات ) بمعنى فعل ماض من البُعد كما في بيت جرير ، وأن الأفصح أن يكون ما بعدها مجروراً باللام فيكون على الاستغناء عن فاعل اسم الفعل للعلم به مما يسبق ( هيهات ) من الكلام لأنها لا تقع غالباً إلا بعد كلام ، وتجعل اللام للتبيين ، أي إيضاح المراد من الفاعل ، فيحصل بذلك إجمال ثم تفصيل يفيد تقوية الخبر . وهذه اللام ترجع إلى لام التعليل . وإذا ورد ما بعدها مجروراً ب ( مِن ) ف ( مِن ) بمعنى ( عن ) أي بَعُد عنه أو بُعداً عنه .

على أنه يجوز أن تؤوّل ( هيهات ) مرة بالفعل وهو الغالب ومرة بالمصدر فتكون اسم مصدر مبنياً جامداً غير مشتق . ويكون الإخبار بها كالإخبار بالمصدر ، وهو الوجه الذي سلكه الزجاج في تفسير هذه الآية ويشير كلام الزمخشري إلى اختياره .

وجاء هنا فعل { توعدون } من ( أوعد ) وجاء قبله فعل { أيَعِدكم } وهو من ( وَعَدَ ) مع أن الموعود به شيء واحد . قال الشيخ ابن عرفة : لأن الأول : راجع إليهم في حال وجودهم فجعل وعداً ، والثاني راجع إلى حالتهم بعد الموت والانعدام فناسب التعبير عنه بالوعيد اه .

وأقول : أحسن من هذا أنه عبَّر مرة بالوعد ومرة بالوعيد على وجه الاحتباك ، فإن إعلامهم بالبعث مشتمل على وعد بالخير إن صدّقوا وعلى وعيد إن كذّبوا ، فذكر الفعلان على التوزيع إيجازاً .