وقبل أن يمضي السياق إلى مشهد جديد من مشاهد القصة ، يقف عند هذا البلاغ المبكر ، يوجه الخطاب إلى النبي الأمي [ ص ] يأمره بإعلان الدعوة إلى الناس جميعاً ، تصديقاً لوعد الله القديم :
( قل : يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً ، الذي له ملك السماوات والأرض ، لا إله إلا هو يحيي ويميت . فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته ، واتبعوه لعلكم تهتدون ) .
إنها الرسالة الأخيرة ، فهي الرسالة الشاملة ، التي لا تختص بقوم ولا أرض ولاجيل . . ولقد كانت الرسالات قبلها رسالات محلية قومية محدودة بفترة من الزمان - ما بين عهدي رسولين - وكانت البشرية تخطو على هدى هذه الرسالات خطوات محدودة ، تأهيلاً لها للرسالة الأخيرة . وكانت كل رسالة تتضمن تعديلاً وتحويراً في الشريعة يناسب تدرج البشرية . حتى إذا جاءت الرسالة الأخيرة جاءت كاملة في أصولها ، قابلة للتطبيق المتجدد في فروعها ، وجاءت للبشر جميعاً ، لأنه ليست هنالك رسالات بعدها للأقوام والأجيال في كل مكان . وجاءت وفق الفطرة الإنسانية التي يلتقي عندها الناس جميعاً . ومن ثم حملها النبي الأمي الذي لم يدخل على فطرته الصافية - كما خرجت من يد الله - إلا تعليم الله . فلم تشب هذه الفطرة شائبة من تعليم الأرض ومن أفكار الناس ! ليحمل رسالة الفطرة إلى فطرة الناس جميعاً :
( قل : يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً ) . .
وهذه الآية التي يؤمر فيها رسول الله [ ص ] أن يواجه برسالته الناس جميعاً ، هي آية مكية في سورة مكية . . وهي تجبه المزورين من أهل الكتاب ، الذين يزعمون أن محمداً [ ص ] لم يكن يدور في خلده وهو في مكة أن يمد بصره برسالته إلى غير أهلها ، وأنه إنمابدأ يفكر في أن يتجاوز بها قريشاً ، ثم يجاوز بها العرب إلى دعوة أهل الكتاب ، ثم يجاوز بها الجزيرة العربية إلى ما وراءها . . كل أولئك بعد أن أغراه النجاح الذي ساقته إليه الظروف ! وإن هي إلا فرية من ذيول الحرب التي شنوها قديماً على هذا الدين وأهله . وما يزالون ماضين فيها !
وليست البلية في أن يرصد أهل الكتاب كيدهم كله لهذا الدين وأهله . وأن يكون " المستشرقون " الذين يكتبون مثل هذا الكذب هم طليعة الهجوم على هذا الدين وأهله . . إنما البلية الكبرى أن كثيراً من السذج الأغرار ممن يسمون أنفسهم بالمسلمين يتخذون من هؤلاء المزوّرين على نبيهم ودينهم ، المحاربين لهم ولعقيدتهم ، أساتذة لهم ، يتلقون عنهم في هذا الدين نفسه ، ويستشهدون بما يكتبونه عن تاريخ هذا الدين وحقائقه ، ثم يزعم هؤلاء السذج الأغرار لأنفسهم أنهم " مثقفون ! " . ونعود إلى السياق القرآني بعد تكليف الرسول [ ص ] أن يعلن رسالته للناس جميعاً . فنجد بقية التكليف هي تعريف الناس جميعا بربهم الحق سبحانه :
( الذي له ملك السماوات والأرض ، لا إله إلا هو . يحيي ويميت ) . .
إنه [ ص ] رسول للناس جميعاً من ربهم الذي يملك هذا الوجود كله - وهم من هذا الوجود - والذي يتفرد بالألوهية وحده ، فالكل له عبيد . والذي تتجلى قدرته وألوهيته في أنه الذي يحيي ويميت . .
والذي يملك الوجود كله ، والذي له الألوهية على الخلائق وحده ، والذي يملك الحياة والموت للناس جميعاً . هو الذي يستحق أن يدين الناس بدينه ، الذي يبلغه إليهم رسوله . . فهو تعريف للناس بحقيقة ربهم ، لتقوم على هذا التعريف عبوديتهم له ، وطاعتهم لرسوله :
( فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته ، واتبعوه لعلكم تهتدون )
وهذا النداء الأخير في هذا التعقيب يتضمن لفتات دقيقة ينبغي أن نقف أمامها لحظات :
إنه يتضمن ابتداء ذلك الأمر بالإيمان بالله ورسوله . . وهو ما تتضمنه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، في صورة أخرى من صور هذا المضمون الذي لا يقوم بدونه إيمان ولا إسلام . . ذلك أن هذا الأمر بالإيمان بالله سبقه في الآية التعريف بصفاته تعالى : ( الذي له ملك السماوات والأرض ، لا إله إلا هو ، يحيي ويميت ) فالأمر بالإيمان هو أمر بالإيمان بالله الذي هذه صفاته الحقة . كما سبقه التعريف برسالة النبي [ ص ] إلى الناس جميعاً .
ثم يتضمن ثانية أن النبي الأمي - صلوات الله وسلامه عليه - يؤمن بالله وكلماته . . ومع أن هذه بديهية ، إلا أن هذه اللفتة لها مكانها ولها قيمتها . فالدعوة لا بد أن يسبقها إيمان الداعي بحقيقة ما يدعو إليه ، ووضوحه في نفسه ، ويقينه منه . لذلك يجيء وصف النبي المرسل إلى الناس جميعاً بأنه ( الذي يؤمن بالله وكلماته ) . . وهو نفس ما يدعو الناس إليه ونصه . .
ثم يتضمن أخيراً لفتة إلى مقتضى هذا الإيمان الذي يدعوهم إليه . وهو اتباعه فيما يأمر به ويشرعه ، واتباعه كذلك في سنته وعمله . وهو ما يقرره قول الله سبحانه : واتبعوه لعلكم تهتدون . . فليس هناك رجاء في أن يهتدي الناس بما يدعوهم إليه رسول الله [ ص ] إلا باتباعه فيه . ولا يكفي أن يؤمنوا به في قلوبهم ما لم يتبع الإيمان الاتباع العملي . . وهو الإسلام . .
إن هذا الدين يعلن عن طبيعته وعن حقيقته في كل مناسبة . . إنه ليس مجرد عقيدة تستكن في الضمير . . كما أنه كذلك ليس مجرد شعائر تؤدى وطقوس . . إنما هو الاتباع الكامل لرسول الله [ ص ] فيما يبلغه عن ربه ، وفيما يشرعه ويسنه . . والرسول لم يأمر الناس بالإيمان بالله ورسوله فحسب . ولم يأمرهم كذلك بالشعائر التعبدية فحسب . ولكنه أبلغهم شريعة الله في قوله وفعله . ولا رجاء في أن يهتدي الناس إلا إذا اتبعوه في هذا كله . . فهذا هو دين الله . . وليس لهذا الدين من صورة أخرى إلا هذه الصورة التي تشير إليها هذه اللفتة : ( واتبعوه لعلكم تهتدون ) بعد الأمر بالإيمان بالله ورسوله . . ولو كان الأمر في هذا الدين أمر اعتقاد وكفى ، لكان في قوله : ( فآمنوا بالله ورسوله ) الكفاية !
{ قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم } الخطاب عام ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مبعوثا إلى كافة الثقلين ، وسائر الرسل إلى أقوامهم . { جميعا } حال من إليكم . { الذي له ملك السماوات والأرض } صفة لله وإن حيل بينهما بما هو متعلق المضاف إليه لأنه كالتقدم عليه ، أو مدح منصوب أو مرفوع ، أو مبتدأ خبره { لا إله إلا هو } وهو على الوجوه . الأول بيان لما قبله فإن من ملك العالم كان هو الإله لا غيره وفي : { يُحيى ويُميت } مزيد تقرير لاختصاصه بالألوهية . { فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمّي الذي يؤمن بالله وكلماته } ما أنزل عليه وعلى سائر الرسل من كتبه ووحيه . وقرئ " وكلمته " على إرادة الجنس أو القرآن ، أو عيسى تعريضا لليهود وتنبيها على أن من لم يؤمن به لم يعتبر إيمانه ، وإنما عدل عن التكلم إلى الغيبة لإجراء هذه الصفات الداعية إلى الإيمان به والاتباع له . { واتبعوه لعلكم تهتدون } جعل رجاء الاهتداء أثر الأمرين تنبيها على أن من صدقه ولم يتابعه بالتزام شرعه فهو يعد في خطط الضلالة .
هذه الجملة معترضة بين قصص بني إسرائيل جاءت مستطردة لمناسبة ذكر الرسول الأمي ، تذكيرً لبني إسرائيل بما وعد الله به موسى عليه السلام ، وإيقاظاً لأفهامهم بأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو مِصداق الصفات التي علمها الله موسى والخطاب ب { يا أيها الناس } لجميع البشر ، وضمير التكلم ضمير الرسول محمد صلى الله عليه وسلم
وتأكيد الخبر ب ( إن ) باعتبار أن في جملة المخاطبين منكرين ومترددين ، استقصاء في إبلاغ الدعوة إليهم .
وتأكيد ضمير المخاطبين بوصف { جميعاً } الدال نصاً على العموم ، لرفع احتمال تخصيص رسالته بغير بني إسرائيل ، فإن من اليهود فريقاً كانوا يزعمون أن محمداً صلى الله عليه وسلم نبيء ، ويزعمون إنه نبيُء العرب خاصة ، ولذلك لما قال رسول الله لابن صياد وهو يهودي أتشهد أني رسول الله ، قال ابن صياد : أشهد إنك رسول الأميين . وقد ثبت من مذاهب اليهود مذهب فريق من يهود أصفهان يدعون بالعيسوية وهم أتباع أبي عيسى الأصفهاني اليهودي القائِل بأن محمداً رسول الله إلى العرب خاصة لا إلى بني إسرائيل ، لأن اليهود فريقان : فريق يزعمون أن شريعة موسى لا تنسخ بغيرها ، وفريق يزعمون أنها لا تنسخ عن بني إسرائيل ، ويجوز أن يبعث رسول لغير بني إسرائيل .
وانتصب { جميعاً } على الحال من الضمير المجرور ، ب ( إلى ) وهو فعيل بمعنى مفعوُل أي مجموعين ، ولذلك لزم الإفرادَ ؛ لأنه لا يطابق موصوفه .
{ الذي له ملك السماوات والأرض } نعت لاسم الجلالة ، دال على الثناء .
وتقديم المجرور للقصر ، أي : لا لغيره مما يعبده المشركون ، فهو قصر إضافي للرد على المشركين .
وجملة : { لا إله إلاّ هو } حال من اسم الجلالة في قوة متفرداً بالإلهية ، وهذا قصر حقيقي لتحقيق صفة الوحدانية ، لا لقصد الرد على المشركين .
والمقصود من ذكر هذه الأوصاف الثلاثة : تذكير اليهود ، ووعظهم ، حيث جحدوا نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم وزعموا أنه لا رسول بعد موسى ، واستعظموا دعوة محمد ، فكانوا يعتقدون أن موسى لا يشبهه رسول ، فذُكّروا بأن الله مالك السماوات والأرض ، وهو واهب الفضائِل ، فلا يُستعظم أن يرسل رسولاً ثم يرسل رسولاً آخر ، لأن الملك بيده ، وبأن الله هو الذي لا يشابهه أحد في ألوهيته ، فلا يكون إلهان للخلق ، وأما مرتبة الرسالة فهي قابلة للتعدد ، وبأن الله يحيي ويميت فكذلك هو يميت شريعة ويحيي شريعة أخرى ، وإحياء الشريعة إيجادها بعد أن لم تكن : لأن الإحياء حقيقته إيجاد الحياة في الموجود ، ثم يحصل من هذه الصفات إبطال عقيدة المشركين بتعدد الآلهة وبإنكار الحشر .
وقد انتظم أن يفرع على هذه الصفات الثلاث الطلب الجازم بالإيمان بهذا الرسول في قوله : { فآمنوا بالله ورسوله النبي الأُمي } والمقصود طلب الإيمان بالنبي الأمي ؛ لأنه الذي سِيق الكلام لأجله ، ولكن لما صُدّر الأمر بخطاب جميع البشر وكان فيهم من لا يؤمن بالله ، وفيهم من يؤمن بالله ولا يؤمن بالنبي الأمّي ، جُمع بين الإيمان بالله والإيمان بالنبي الأمي في طلب واحد ، ليكون هذا الطلب متوجهاً للفرَق كلهم ، ليجمعوا في إيمانهم بين الإيمان بالله والنبي الأمي ، مع قضاء حق التأدب مع الله بجعل الإيمان به مقدماً على طلب الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم للإشارة إلى أن الإيمان بالرسول إنما هو لأجل الإيمان بالله ، على نحو ما أشار إليه قوله تعالى : { ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله } [ النساء : 150 ] ، وهذا الأسلوب نظير قوله تعالى : { إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمتُه ألقاها إلى مريم وروح منه ، فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة } [ النساء : 171 ] فإنهم آمنوا بالله ورُسله ، وإنما المقصود زيادة النهي عن اعتقاد التثليث ، وهو المقصود من سياق الكلام .
والإيمان بالله الإيمانُ بأعظم صفاته وهي الإلهية المتضمن إياها اسم الذات ، والإيمان بالرسول الإيمانُ بأخص صفاته وهو الرسالة ، وذلك معلوم من إناطة الإيمان بوصف الرسول دون اسمه العلم .
وفي قوله : { ورسوله النبي الأمي } التفاتٌ من التكلم إلى الغيبة لقصد إعلان تحقق الصفة الموعود بها في التوراة في شخص محمد صلى الله عليه وسلم .
ووصف النبي الأمي بالذي يؤمن بالله وكلماته ، بطريق الموصولية للإيماء إلى وجه الأمر بالإيمان بالرسول ، وإنه لا معذرة لمن لا يؤمن به من أهل الكتاب ، لأن هذا الرسول يؤمن بالله وبكلمات الله ، فقد اندرج في الإيمان به الإيمان بسائِر الأديان الإلهية الحق ، وهذا نظير قوله تعالى ، في تفضيل المسلمين : { وتؤمنون بالكتاب كله } [ آل عمران : 119 ] وتقدم معنى الأمي قريباً .
وكلمات جمع كلمة بمعنى الكلام مثل قوله تعالى : { كلاّ إنها كلمة هو قائِلها } [ المؤمنون : 100 ] أي قولُه : { ربِ ارْجِعُون لعليِّ أعْمل صالحاً فيما تركت } [ المؤمنون : 99 ، 100 ] . فكلمات الله تشمل كتبه ووحيه للرسل ، وأوِثر هنا التعبير بكلماته ، دون كتبه ، لأن المقصود الإيماء إلى إيمان الرسول عليه الصلاة والسلام بأن عيسى كلمة الله ، أي أثَرُ كلمته ، وهي أمر التكوين ، إذ كان تكّون عيسى عن غير سبب التكون المعتاد بل كان تكونه بقول الله { كُن } كما قال تعالى : { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كُن فيكون } [ آل عمران : 59 ] ، فاقتضى أن الرسول عليه الصلاة والسلام يؤمن بعيسى ، أي بكونه رسولاً من الله ، وذلك قطع لمعْذرة النصارى في التردد في الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم واقتضى أن الرسول يؤمن بأن عيسى كلمة الله ، وليس ابن الله ، وفي ذلك بيان للإيمان الحق ، ورد على اليهود فيما نسبوه إليه ، ورد على النصارى فيما غَلْوا فيه .
والقول في معنى الاتّباع تقدم ، وكذلك القول في نحو { لعلكم تهتدون } .