والعجيب - كان - في أمر القوم أنهم كانوا يعترفون بوجود الله ، وخلقه للسماوات والأرض . ثم لا يرتبون على هذا الاعتراف نتائجه الطبيعية من توحيد الله ، وإخلاص التوجه إليه فكانوا يجعلون له شركاء ، يخصونهم ببعض ما خلق من الأنعام ؛ كما كانوا يزعمون أن الملائكة بناته ، ويعبدونهم من دونه في صورة أصنام !
والقرآن يعرض اعترافهم ، ويرتب عليه نتائجه ، ويوجههم إلى منطق الفطرة الذي يجانبونه ، وإلى السلوك الواجب تجاه نعمته عليهم فيما خلق لهم من الفلك والأنعام . ثم يناقشهم بمنطقهم في دعواهم عن الملائكة :
( ولئن سألتهم : من خلق السماوات والأرض ? ليقولن : خلقهن العزيز العليم . الذي جعل لكم الأرض مهداً ، وجعل لكم فيها سبلاً لعلكم تهتدون . والذي نزل من السماء ماء بقدر ، فأنشرنا به بلدة ميتا ، كذلك تخرجون . والذي خلق الأزواج كلها ، وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون . لتستووا على ظهوره ، ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه ، وتقولوا : سبحان الذي سخر لنا هذا ، وما كنا له مقرنين ؛ وإنا إلى ربنا لمنقلبون ) . .
لقد كانت للعرب عقيدة - نظن أنها بقايا من الحنيفية الأولى ملة إبراهيم عليه السلام ، ولكنها بهتت وانحرفت ودخلت فيها الأساطير - وقد بقي منها ما لا تملك الفطرة إنكاره من وجود خالق لهذا الكون ، وأنه هو الله ، فما يمكن - في منطق الفطرة وبداهتها - أن يكون هذا الكون قد نشأ هكذا من غير خالق ؛ وما يمكن أن يخلق هذا الكون إلا الله . ولكنهم كانوا يقفون بهذه الحقيقة التي تنطق بها بداهة الفطرة عند شكلها الظاهر ، ولا يعترفون بما وراءها من مقتضيات طبيعية لها :
( ولئن سألتهم : من خلق السماوات والأرض ? ليقولن : خلقهن العزيز العليم . . . ) . .
وواضح أن هاتين الصفتين : ( العزيز العليم )ليستا من قولهم . فهم كانوا يعترفون بأن الذي خلقهن هو( الله ) . . ولكنهم لم يكونوا يعرفون الله بصفاته التي جاء بها الإسلام . هذه الصفات الإيجابية التي تجعل لذات الله في نفوسهم أثراً فعالاً في حياتهم وحياة هذا الكون . كانوا يعرفون الله خالقا لهذا الكون ، وخالقاً لهم كذلك . ولكنهم كانوا يتخذون من دونه شركاء . لأنهم لم يعرفوه بصفاته التي تنفي فكرة الشرك ، وتجعلها تبدو متهافتة سخيفة . .
والقرآن هنا يعلمهم أن الله ، الذي يعترفون بأنه خالق السماوات والأرض ، هو ( العزيز العليم ) . . فهو القوي القادر ، وهو العليم العارف . فيبدأ بهم من اعترافهم ، ويخطو بهم الخطوات التالية لهذا الاعتراف .
وقوله تعالى : { ولئن سألتهم } الآية ابتداء احتجاج على قريش يوجب عليهم التناقض في أمرهم ، وذلك أنهم يقرون أن الخالق الموجد لهم وللسماوات والأرض هو الله تعالى ، وهم مع ذلك يعبدون أصناماً ويدعونها آلهتهم ، ومقتضى جواب قريش أن يقولوا «خلقهن الله » فلما ذكر تعالى المعنى جاءت العبارة عن الله ب { العزيز العليم } ليكون ذلك توطئة لما عدد بعد من أوصافه التي ابتدأ الإخبار بها وقطعها من الكلام الذي حكى معناه عن قريش .
لما كان قوله : { وكم أرسلنا من نبيء في الأولين } [ الزخرف : 6 ] موجهاً إلى الرّسول صلى الله عليه وسلم للتسلية والوعد بالنصر ، عطف عليه خطاب الرّسول صلى الله عليه وسلم صريحاً بقوله : { ولئن سألتهم } الآية ، لقصد التعجيب من حال الذين كذّبوه فإنهم إنما كذبوه لأنه دعاهم إلى عبادة إله واحد ونبْذِ عبادة الأصنام ، ورأوا ذلك عجباً مع أنهم يقرّون لله تعالى بأنّهُ خالق العوالم وما فيها . وهل يستحق العبادةَ غيرُ خالق العابدين ، ولأنّ الأصنام من جملة ما خلق الله في الأرض من حجارة ، فلو سألهم الرّسول صلى الله عليه وسلم في محاجّته إياهم عن خالق الخلق لما استطاعوا غير الإقرار بأنه الله تعالى .
فجملة { ولئن سألتهم } معطوفة على جملة { وكم أرسلنا من نبيء في الأولين } [ الزخرف : 6 ] عطف الغرض ، وهو انتقال إلى الاحتجاج على بطلان الإشراك بإقرارهم الضِمْنيّ : أن أصنامهم خالية عَن صفة استحقاققِ أنْ تُعبد . وتأكيد الكلام باللام الموطئة للقسم ولام الجواب ونون التوكيد لتحقيق أنهم يجيبون بذلك تنزيلاً لغير المتردد في الخبر منزلة المتردّد ، وهذا التنزيل كناية عن جدارة حالتهم بالتعجيب من اختلال تفكيرهم وتناقض عقائدهم وإنّما فُرض الكشف عن عقيدتهم في صورة سؤالهم عن خالقهم للإشارة إلى أنهم غافلون عن ذلك في مجرى أحوالهم وأعمالهم ودعائهم حتى إذا سألهم السائل عن خالقهم لم يتريّثوا أن يجيبوا بأنه الله ثم يرجعون إلى شركهم .
وتاء الخطاب في { سألتهم } للنبيء صلى الله عليه وسلم وهو ظاهر سياق التسلية ، أو يكون الخطاب لغير معيّن ليعمّ كل مخاطب يتصور منه أن يسألهم .
و { العزيز العليم } هو الله تعالى . وليس ذكر الصفتين العليتين من مقول جوابهم وإنما حكي قولهم بالمعنى ، أي ليقولن خلقهنّ الذي الصفتان من صفاته ، وإنما هم يقولون : خلقهن الله ، كما حكي عنهم في سورة لقمان ( 25 ) و { لئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولُنّ الله } وذلك هو المستقرَى من كلامهم نثراً وشعراً في الجاهلية . وإنما عُدل عن اسم العليّ إلى الصفتين زيادة في إفحامهم بأن الذي انصرفوا عن توحيده بالعبادة عزيز عليم ، فهو الذي يجب أن يرجوه النّاس للشدائد لعزّته وأن يخلصوا له باطنهم لأنه لا يخفى عليه سرّهم ، بخلاف شركائهم فإنها أذلّة لا تعلم ، وإنهم لا ينازعون وصفه ب { العزيز العليم } .
وتخصيص هاتين الصفتين بالذكر من بين بقية الصفات الإلهية لأنها مضادة لصفات الأصنام فإن الأصنام عاجزة عن دفع الأيدي .
والتقدير : ولئن سألتهم مَن خلق السماوات والأرض ليقولُنّ الله ، وإن سألتهم : أهو العزيز العليم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.