ثم ينتقل من الامتنان عليهما بآلاء الله في الكون ، إلى الامتنان عليهما بآلائه في ذوات أنفسهما ، وفي خاصة وجودهما وإنشائهما :
( خلق الإنسان من صلصال كالفخار . وخلق الجان من مارج من نار . . فبأي آلاء ربكما تكذبان ? ) . .
ونعمة الإيجاد والإنشاء أصل النعمة . والمسافة بين الوجود وعدم الوجود ابتداء مسافة لا تقاس أبعادها بأي مقياس مما يألفه البشر . فجميع المقاييس التي في أيدي البشر أو التي تدركها عقولهم ، هي مقاييس للفارق بين موجود وموجود . أما المسافة بين الموجود وغير الموجود فلا تدركها مدارك البشر بحال ! ونحسب الجن كذلك ، فإن هم إلا خلق مقاييسه مقاييس المخلوقات !
فحين يمتن الله على الجن والإنس بنعمة الإيجاد والإنشاء ؛ فإنما يمتن عليهما بالنعمة التي تفوق حد الإدراك .
ثم يقرر الحق سبحانه مادة خلق الإنس والجن ، وهي كذلك من خلق الله . والصلصال : الطين إذا يبس وصار له صوت وصلصلة عند الضرب عليه . وقد تكون هذه حلقة في سلسلة النشأة من الطين أو من التراب . كما أنها قد تكون تعبيرا عن حقيقة الوحدة بين مادة الإنسان ومادة الأرض في عناصر التكوين .
[ وقد أثبت العلم الحديث أن جسم الإنسان يحتوي من العناصر ما تحتويه الأرض . فهو يتكون من الكربون ، والأكسجين ، والأيدروجين ، والفوسفور ، والكبريت ، والآزوت ، والكالسيوم ، والبوتاسيوم ، والصوديوم ، والكلور ، والمغنسيوم ، والحديد ، والمنجنيز ، والنحاس ، واليود ، والفلورين ، والكوبالت ، والزنك ، والسلكون ، والألمنيوم . وهذه نفسها هي العناصر المكونة للتراب . وإن اختلفت نسبها في إنسان عن الآخر ، وفي الإنسان عن التراب . إلا أن أصنافها واحدة ] .
إلا أن هذا الذي أثبته العلم لا يجوز أن يؤخذ على أنه التفسير الحتمي للنص القرآني . فقد تكون الحقيقة القرآنية تعني هذا الذي أثبته العلم ، أو تعني شيئا آخر سواه . وتقصد إلى صورة أخرى من الصور الكثيرة التي يتحقق بها معنى خلق الإنسان من تراب ، أو طين أو صلصال .
والذي ننبه إليه بشدة هو ضرورة عدم قصر النص القرآني على كشف علمي بشري ، قابل للخطأ والصواب ، وقابل للتعديل والتبديل ، كلما اتسعت معارف الإنسان وكثرت وتحسنت وسائله للمعرفة . فإن بعض المخلصين من الباحثين يسارعون إلى المطابقة بين مدلول النصوص القرآنية والكشوف العلمية - تجريبية أو افتراضية - بنية بيان ما في القرآن من إعجاز . فالقرآن معجز سواء طابقت الكشوف العلمية المتأرجحة نصوصه الثابتة أم لم تطابقها . ونصوصه أوسع مدلولا من حصرها في نطاق تلك الكشوف القابلة دائما للتبديل والتعديل ، بل للخطأ والصواب من الأساس ! وكل ما يستفاد من الكشوف العلمية في تفسير نصوص القرآن ، هو توسيع مدلولها في تصورنا كلما أطلعنا العلم على شيء مما تشير إليه إشارات مجملة من آيات الله في الأنفس والآفاق ، دون أن يحمل النص القرآني على أن مدلوله هو هذا الذي كشفه العلم . إنما جواز أن يكون هذا بعض ما يشير إليه .
فأما خلق الجان من مارج من نار . فمسألة خارجة عن حدود العلوم البشرية . والمصدر الواحد فيها هو هذا القرآن . خبر الله الصادق . الذي خلق وهو أعلم بمن خلق . . والمارج : المشتعل المتحرك كألسنة النار مع الرياح ! وللجان قدرة على الحياة في هذه الأرض مع الإنس . ولكنا لا ندري كيف يعيش الجان وقبيله . فأما الأمر المستيقن فهو أنهم مخاطبون بهذا القرآن كما سبق بيانه عند تفسير قوله تعالى : ( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن . . )وكما هو الحال هنا في سورة الرحمن .
{ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ( 14 ) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ ( 15 ) فَبِأَيِّ آَلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 16 ) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ( 17 ) فَبِأَيِّ آَلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 18 ) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ( 19 ) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَ يَبْغِيَانِ ( 20 ) فَبِأَيِّ آَلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 21 ) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ( 22 ) فَبِأَيِّ آَلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 23 ) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآَتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ( 24 ) فَبِأَيِّ آَلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 25 ) }
صلصال : طين جاف له صلصلة وصوت إذا نُقر .
الفخار : الخزف ، وهو ما أحرق من الطين حتى تحجّر .
14-{ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّار } .
خلق الله الإنسان من ( التراب ) ، ثم اختلط التراب بالماء فصار ( طينا ) ، ثم تُرك مدة فتحول الطين إلى ( حمأ مسنون ) أي طين يابس منتن ، ثم تحوّل إلى ( طين لازب ) أي لاصق باليد ، ثم تحوّل إلى ( صلصال ) أي طين يابس له صلصلة ، أي صوت إذا نقر ، ( كالفخار ) وهو ما أحرق من الطين حتى تحجّر ويسمى الخزف ، وكل هذه الآيات تعبر عن المراحل التي مرّ بها خلق الإنسان ، فقد عبر القرآن عن أن الله خلق آدم من تراب في بعض الآيات ، وفي آيات أخرى أنه خلق آدم من طين ، وفي آيات أخرى أنه خلقه من حمأ مسنون ، وفي آيات أخرى أنه خلقه من طين لازب ، وهنا عبر بأنه سبحانه خلق الإنسان من : صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ . وكلها تشير إلى المراحل التي مر بها خلق الإنسان ، وكل آية تشير على طور من أطوار هذا الخلق ، وكلها تدل على إعجاز القدرة التي خلقت آدم من جنس الأرض ، ثن نفخت فيه الروح ، فصار بشرا سويا ، يجمع بين الجسم ومتطلباته ، والروح ومتطلباتها ، ومن سماحة الإسلام دعوته الخلق إلى إعمار الكون بالزراعة والتجارة والصناعة ، وإثراء الحياة وفاء لحق الجسم ، ثم دعوته إلى الإيمان وأداء العبادات وإحسان المعاملات ، رغبة في إسعاد الروح في الدنيا ، وتمتعها بنعيم الجنة في الآخرة ، فالإسلام دعا إلى التوازن بين أداء حق الجسم ، وأداء حق الروح .
وفي الحديث الصحيح : " إنّ لربك عليك حقا ، وإن لبدنك عليك حقا ، وإن لزوجك عليك حقا ، وإن لضيفك عليك حقا ، فأعْطِ كل ذي حق حقّه " v .
{ خَلَقَ الإنسان مِن صلصال كالفخار } تمهيد للتوبيخ على إخلالهم بمواجب شكر النعمة المتعلقة بذاتي كل واحد من الثقلين ، والمراد بالإنسان آدم عند الجمهور . وقيل : الجنس وساغ ذلك لأن أباهم مخلوق مما ذكر ، والصلصال الطين اليابس الذي له صلصلة ، وأصله كما قال الراغب تردد الصوت من الشيء اليابس . ومنه قيل : صل المسمار ، وقيل : هو المنتن من الطين من قولهم : صل اللحم ، وكأنه أصله صلال فقلبت إحدى اللامين صاداً ويبعد ذلك قوله سبحانه : { كالفخار } وهو الخذف أعني ما أحرق من الطين حتى تحجر وسمي بذلك لصوته إذا نقر كأنه تصور بصورة من يكثر التفاخر ، وقد خلق الله تعالى آدم عليه السلام من تراب جعله طيناً ثم حمأ مسنوناً ثم صلصالاً فلا تنافي بين الآية الناطقة بأحدها وبين ما نطق بأحد الآخرين { وَخَلَقَ الجان } هو أبو الجن وهو إبليس قاله الحسن ، وقال مجاهد : هو أبو الجن وليس بإبليس ، وقيل : هو اسم جنس شامل للجن كلهم .
{ 14-16 } { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }
وهذا من نعمه تعالى على عباده ، حيث أراهم [ من ] آثار قدرته وبديع صنعته ، أن { خَلَقَ } أبا الإنس وهو آدم عليه السلام { مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ } أي : من طين مبلول ، قد أحكم بله وأتقن ، حتى جف ، فصار له صلصلة وصوت يشبه صوت الفخار الذي طبخ على النار{[946]} .
ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن نعمة خلق الإنسان ، وعن مظاهر قدرته فى هذا الكون ، فقال - تعالى - : { خَلَقَ الإنسان . . . } .
الصلصال - الطين اليابس الذى تسمع له صوتا وصلصلة إذا قرع بشىء .
والفخار : الخزف المجوف الذى صار كذلك بعد أن أدخل فى النار .
ولا تعارض بين هذه الآية ، وبين غيرها من الآيات التى تحكى أن الإنسان خلق من تراب أو من طين أو من صلصال من حمأ مسنون .
لأن كل آية تتحدث عن مرحلة من مراحل خلق الإنسان ، لأن هذا التراب صار طينا ، ثم خمر هذا الطين فصار حمأ مسنونا ، أى : طينا أسود متغير الرائحة ، ثم يبس هذا الطين فصار صلصالا كالفخار .
فالآيات الكريمة التى تحدثت عن خلق الإنسان لا يصادم بعضها بعضا ، وإنما يؤيد بعضها بعضا .
قال بعض العلماء : وقد أثبت العلم الحديث أن جسم الإنسان يحتوى من العناصر ما تحتويه الأرض ، فهو يتكون من الكربون ، والأكسجين ، والحديد .
وهذه نفسها هى العناصر المكونة للتراب ، وإن اختلفت نسبها من إنسان إلى آخر ، وفى الإنسان عن التراب ، إلا أن أصنافها واحدة .
إلا أن هذا الذى اثبته العلم لا يجوز أن يؤخذ على أنه التفسير الحتمى للنص القرآنى .
فقد تكون الحقيقة القرآنية تعنى هذا الذى أثبته العلم ، أو تعنى شيئا آخر سواه ، وتقصد إلى صورة أخرى من الصور الكثيرة التى يتحقق بها معنى خلق الإنسان من تراب ، أو من طين ، أو من صلصال .
والذى ننبه إليه بشدة ، هو ضرورة عدم قصر النص القرآنى على كشف علمى بشرى ، قابل للخطأ والصواب ، وقابل للتعديل والتبديل ، كلما اتسعت معارف الإنسان ، وكثرت وتحسنت وسائله للمعرفة .
والمعنى : خلق - سبحانه - بقدرته أباكم آدم الذى هو أصلكم ، وعنه تفرع جنسكم من طين يابس يشبه الفخار فى يبوسته وصلابته .