وتتفق كذلك مع قول الرجل المؤمن : ( يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ) . . وقد يكون ذلك فرارهم عند هول جهنم ، أو محاولتهم الفرار . ولا عاصم يومئذ ولات حين فرار . وصورة الفزع والفرار هي أولى الصور هنا للمستكبرين المتجبرين في الأرض ، أصحاب الجاه والسلطان !
( ومن يضلل الله فما له من هاد ) . . ولعل فيها إشارة خفية إلى قولة فرعون : ( وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ) . . وتلميحاً بأن الهدى هدى الله . وأن من أضله الله فلا هادي له . والله يعلم من حال الناس وحقيقتهم من يستحق الهدى ومن يستحق الضلال .
{ يوم تولُّون مدبرين } : أي هاربين من النار إلى الموقف .
{ مالكم من الله من عاصم } يعصمكم من العذاب وينجيكم منه . وبعد هذا الوعظ البليغ قال { ومن يضلل الله فما له من هاد } إشارة إلى أن القوم لم يتأثروا بكلامه فقال متعزياً بعلمه بتدبير الله في خلقه فقال : { ومن يضلل الله فما له من هاد } فإن من كتب الله عليه الضلالة ليصل إلى الشقاوة بكسبه فلا هادي له أبداً ، إذ الله لا يهدي من يُضل ثم قال لهم مواصلا كلامه{ ولقد جاءكم يوسف من قبل } .
ولهذا قال : { يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِين } أي : قد ذهب بكم إلى النار { مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ } لا من أنفسكم قوة تدفعون بها عذاب الله ، ولا ينصركم من دونه من أحد { يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ }
{ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } لأن الهدى بيد الله تعالى ، فإذا منع عبده الهدى لعلمه أنه غير لائق به ، لخبثه ، فلا سبيل إلى هدايته .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
أخبر المؤمن عن ذلك اليوم فقال: {يوم تولون مدبرين} يعني بعد الحساب إلى النار ذاهبين، كقوله: {فتولوا عنه مدبرين} [الصافات:90].
{ما لكم من الله من عاصم} يعني من مانع يمنعكم من الله عز وجل.
{ومن يضلل الله} عن الهدى {فما له من هاد} يعني من أحد يهديه إلى دين الله عز وجل.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"يَوْمَ تُوَلّونَ مُدْبِرِينَ" فتأويله على التأويل الذي ذكرنا من الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: يَوْمَ يُوَلّونَ هارِبِينَ فِي الأرْضِ حِذَارَ عَذَابِ اللّهِ وَعِقَابِهِ عِنْدَ مُعايَنَتِهِمْ جَهَنّمَ.
وتأويله على التأويل الذي قاله قتادة في معنى "يَوْمَ التّنادِ": يوم تولّون مُنْصَرِفِينَ عن موقف الحساب إلى جهنم...
وأولى القولين في ذلك بالصواب، القول الذي رُوى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان الذي قاله قتادة في ذلك غير بعيد من الحقّ...
وقوله: "وَمَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هادِ "يقول: ومن يخذله الله فلم يوفَقه لرشده، فما له من موفّق يوفقه له.
أكد التهديد فقال: {ما لكم من الله من عاصم}.
ثم نبه على قوة ضلالتهم وشدة جهالتهم فقال: {ومن يضلل الله فما له من هاد}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كانت عادة المتنادين الإقبال، وصف ذلك اليوم بضد ذلك لشدة الأهوال فقال مبدلاً أو مبيناً: {يوم تولون مدبرين} أي حين تخرج ألسنة النيران فتخطف أهل الكفران، وتزفر زفرات يخر أهل الموقف من خشيتها، فترى كل أمة جاثية ويفرون فلا يقصدون مكاناً إلا وجدوا به الملائكة صافين كما قال تعالى {والملك على أرجائها} [الحاقة: 17].
ولما كان المدبر إنما يقصد في إدباره معقلاً يمنعه ويستره أو فئة تحميه وتنصره، قال مبيناً حالهم: {ما لكم من الله} أي الملك الجبار الذي لا ند له، وأعرق في النفي فقال: {من عاصم} أي مانع يمنعكم مما يراد بكم فما لكم من عاصم أصلاً فإنه سبحانه يجير ولا يجار عليه.
ولما كان التقدير: لضلالكم في الدنيا فإن حالكم في ذلك اليوم مكتسب من أحوالكم في هذا اليوم، عطف عليه قوله معمماً: {ومن يضلل اللهُ}...
{فما له من هاد} أي إلى شيء ينفعه بوجه من الوجوه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
صورة الفزع والفرار هي أولى الصور هنا للمستكبرين المتجبرين في الأرض، أصحاب الجاه والسلطان!
(ومن يضلل الله فما له من هاد).. ولعل فيها إشارة خفية إلى قولة فرعون: (وما أهديكم إلا سبيل الرشاد)، وتلميحاً بأن الهدى هدى الله، وأن من أضله الله فلا هادي له، والله يعلم من حال الناس وحقيقتهم من يستحق الهدى ومن يستحق الضلال...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
و {يَوْمَ تُوَلُّونَ} بدل من {يَوْمَ التَّنَادِ}، والتولي: الرجوع، والإِدبارُ: أن يرجع من الطريق التي وراءه، أي من حيث أتى هَرباً من الجهة التي ورد إليها؛ لأنه وجد فيها ما يكره، أي يوم تفرّون من هول ما تجدونه.
و {مدبرين} حال مؤكدة لعاملها وهو {تولون}.
وجملة {مَا لَكُم مِنَ الله مِن عَاصِمٍ} في موضع الحال، والمعنى: حالةَ لا ينفعكم التولِّي.
و {مِنَ الله} متعلق ب {عاصم،} و {من} المتعلقة به للابتداء، تقول: عصمه من الظالم، أي جعله في منَعَة مبتدأة من الظالم، وضَمن فعل (عَصم) معنى: أنقذَ وانتزعَ، ومعنى: {مِنَ الله} من عذابه وعقابه؛ لأن المنع إنما تتعلق به المعاني لا الذوات.
و {من} الداخلة على {عاصم} مزيدة لتأكيد النفي، وَأغنى الكلام على تعدية فعل: {أَخَافُ عَلَيكم مِثلَ يَومِ الأحْزَابِ} عن إعادته هنا.
ولما كانت عادة المتنادين الإقبال ، وصف ذلك اليوم بضد ذلك لشدة الأهوال فقال مبدلاً أو مبيناً : { يوم تولون مدبرين } أي حين تخرج ألسنة النيران فتخطف أهل الكفران ، وتزفر زفرات يخر أهل الموقف من خشيتها ، فترى كل أمة جاثية ويفرون فلا يقصدون مكاناً إلا وجدوا به الملائكة صافين كما قال تعالى{ والملك على أرجائها }[ الحاقة : 17 ] وينادي المنادي{ يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان }[ الرحمن : 33 ] .
ولما كان المدبر إنما يقصد في إدباره معقلاً يمنعه ويستره أو فئة تحميه وتنصره ، قال مبيناً حالهم : { ما لكم من الله } أي الملك الجبار الذي لا ند له ، وأعرق في النفي فقال : { من عاصم } أي مانع يمنعكم مما يراد بكم فما لكم من عاصم أصلاً ، فإنه سبحانه يجير ولا يجار عليه .
ولما كان التقدير : لضلالكم في الدنيا فإن حالكم في ذلك اليوم مكتسب من احوالكم في هذا اليوم ، عطف عليه قوله معمماً : { ومن يضلل اللهُ } أي الملك المحيط بكل شيء الباطن في اردية الجلال الظاهر في مظاهر القهر والجمال ، إضلالاً جبله عليه فهو في غاية البيان - بما أشار إليه الفك { فما له من هاد * } أي إلى شيء ينفعه بوجه من الوجوه ، وأما الضلال العارض فيزيله الله لمن يشاء من عباده ، وهذا لا يعرف إلا بالخاتمة كما قاله الإمام أبو الحسن الأشعري : فمن مات على شيء فهو مجبول عليه .