في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمۡ صَٰلِحٗاۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥۖ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱسۡتَعۡمَرَكُمۡ فِيهَا فَٱسۡتَغۡفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيۡهِۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٞ مُّجِيبٞ} (61)

50

( وإلى ثمود أخاهم صالحا . قال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها . فاستغفروه ثم توبوا إليه ، إن ربي قريب مجيب . .

إنها الكلمة التي لا تتغير :

( يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) . .

وإنه كذلك المنهج الذي لا يتبدل :

( فاستغفروه ثم توبوا إليه ) . .

ثم هو التعريف بحقيقة الألوهية كما يجدها في نفسه الرسول :

( إن ربي قريب مجيب ) . .

وذكرهم صالح بنشأتهم من الأرض . نشأة جنسهم ، ونشأة أفرادهم من غذاء الأرض أو من عناصرها التي تتألف منها عناصر تكوينهم الجسدي . ومع أنهم من هذه الأرض . من عناصرها . فقد استخلفهم الله فيها ليعمروها . استخلفهم بجنسهم واستخلفهم بأشخاصهم بعد الذاهبين من قبلهم .

ثم هم بعد ذلك يشركون معه آلهة أخرى . .

( فاستغفروه ثم توبوا إليه ) . .

واطمئنوا إلى استجابته وقبوله :

( إن ربي قريب مجيب ) . .

والإضافة في ( ربي ) ولفظ ( قريب ) ولفظ ( مجيب ) واجتماعها وتجاورها . . ترسم صورة لحقيقة الألوهية كما تتجلى في قلب من قلوب الصفوة المختارة ، وتخلع على الجو أنسا واتصالا ومودة ، تنتقل من قلب النبي الصالح إلى قلوب مستمعيه لو كانت لهم قلوب !

/خ68

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{۞وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمۡ صَٰلِحٗاۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥۖ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱسۡتَعۡمَرَكُمۡ فِيهَا فَٱسۡتَغۡفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيۡهِۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٞ مُّجِيبٞ} (61)

يقول تعالى : ولقد أرسلنا { إِلَى ثَمُودَ } وهم الذين كانوا يسكنون{[14707]} مدائن الحجر بين تبوك والمدينة ، وكانوا بعد عاد ، فبعث الله منهم{[14708]} { أَخَاهُمْ صَالِحًا } فأمرهم{[14709]} بعبادة الله وحده [ لا شريك له الخالق الرازق ]{[14710]} ؛ ولهذا قال : { هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ } أي : ابتدأ خلقكم منها ، [ من الأرض التي ]{[14711]} خلق منها أباكم آدم ، { وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا } أي : جعلكم [ فيها ]{[14712]} عُمَّارا تعمرونها وتستغلونها ، لسالف ذنوبكم ، { ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ } فيما تستقبلونه ؛ { إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ } كما قال تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } الآية [ البقرة : 186 ] .


[14707]:- في ت : "يستكبرون".
[14708]:- في ت ، أ : "فيهم".
[14709]:- في أ : "فأمره".
[14710]:- زيادة من أ.
[14711]:- زيادة من ت ، أ.
[14712]:- زيادة من ت ، أ.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمۡ صَٰلِحٗاۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥۖ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱسۡتَعۡمَرَكُمۡ فِيهَا فَٱسۡتَغۡفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيۡهِۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٞ مُّجِيبٞ} (61)

قوله تعالى : { وإلى ثمود أخاهم صالحاً } إلى قوله { غيره } الكلام فيه كالذي في قوله : { وإلى عَاد أخاهم هودا } [ هود : 50 ] إلخ .

وذكر ثمود وصالح عليه السّلام تقدّم في سورة الأعراف .

وثمود : اسم جدّ سميت به القبيلة ، فلذلك منع من الصرف بتأويل القبيلة .

وجملة { هو أنشأكم من الأرض } في موضع التّعليل للأمر بعبادة الله ونفي إلهية غيره ، وكأنهم كانوا مثل مشركي قريش لا يدّعون لأصنامهم خلقاً ولا رزقاً ، فلذلك كانت الحجّة عليهم ناهضة واضحة .

والإنشاء : الإيجاد والإحداث ، وتقدّم في قوله تعالى : { وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين } في [ الأنعام : 6 ] .

وجَعل الخبرين عن الضمير فعلين دون : هو منشئكم ومستعمركم لإفادة القَصر ، أي لم ينشئكم من الأرض إلاّ هو ، ولم يستعمركم فيها غيره .

والإنشاء من الأرض خلق آدم من الأرض لأنّ إنشاءه إنشاء لنسله ، وإنّما ذكر تعلّق خلقهم بالأرض لأنّهم كانوا أهل غرس وزرع ، كما قال في سورة [ الشعراء : 146 148 ] { أتتْركون فيما هاهنا آمنين في جنّاتٍ وعيونٍ وزروعٍ ونخلٍ طلعها هضيمٌ } ولأنّهم كانوا ينحتون من جبال الأرض بيوتاً ويبنون في الأرض قصوراً ، كما قال في الآية الأخرى : { وبوّأكم في الأرض تتّخذون من سهولها قصُوراً وتنحتون الجبال بيوتاً } [ الأعراف : 74 ] ، فكانت لهم منافع من الأرض تناسب نعمة إنشائهم من الأرض فلأجل منافعهم في الأرض قيّدت نعمة الخلق بأنّها من الأرض التي أنشئوا منها ، ولذلك عطف عليه { واستعمركم فيها } .

والاستعمار : الإعمار ، أي جعلكم عامرينها ، فالسّين والتاء للمبالغة كالتي في استبقَى واستفاق . ومعنى الإعمار أنهم جَعلوا الأرض عامرة بالبناء والغرس والزرع لأنّ ذلك يعدّ تعميراً للأرض حتى سمي الحرث عِمارة لأنّ المقصود منه عَمر الأرض .

وفرع على التذكير بهذه النعم أمرهم باستغفاره والتّوبة إليه ، أي طلب مغفرة أجرامهم ، والإقلاع عمّا لا يرضاه من الشرك والفساد . ومن تفنّن الأسلوب أن جعلت هذه النعم علّة لأمرهم بعبادة الله وحده بطريق جملة التّعليل ، وجعلت علّة أيضاً للأمر بالاستغفار والتّوبة بطريق التّفريع .

وعطف الأمر بالتّوبة بحرف التّراخي للوجه المتقدّم في قوله : { ويا قوم استغفروا ربّكم ثم توبوا إليه } [ هود : 51 ] في الآية المتقدمة .

وجملة { إنّ ربّي قريب مجيب } استئناف بيانيّ كأنهم استعظموا أن يكون جرمهم ممّا يقبل الاستغفار عنه ، فأجيبوا بأنّ الله قريب مجيب ، وبذلك ظهر أنّ الجملة ليست بتعليل . وحرف { إنّ } فيها للتّأكيد تنزيلاً لهم في تعظيم جرمهم منزلة من يشكّ في قبول استغفاره .

والقرب : هنا مستعار للرأفة والإكرام ، لأنّ البعد يستعار للجفاء والإعراض . قال جبير بن الأضبط :

تباعد عنّي مطحل إذ دعوته *** أمين فزاد الله ما بيننا بعداً

فكذلك يستعار ضدّه لضدّه ، وتقدّم في قوله : { فإنّي قريبٌ أجيب دعوة الداعِ } في سورة [ البقرة : 186 ] . والمجيب هنَا : مجيب الدّعاء ، وهو الاستغفار . وإجابة الدّعاء : إعطاء السائل مسؤوله .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{۞وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمۡ صَٰلِحٗاۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥۖ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱسۡتَعۡمَرَكُمۡ فِيهَا فَٱسۡتَغۡفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيۡهِۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٞ مُّجِيبٞ} (61)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: وأرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا، فقال لهم يا قوم: اعبدوا الله وحده لا شريك له، وأخلصوا له العبادة دون ما سواه من الآلهة، فما لكم من إله غيره يستوجب عليكم العبادة، ولا تجوز الألوهة إلاّ له. "هُوَ أنْشأَكُمْ مِنَ الأرْضِ "يقول: هو ابتدأ خلقكم من الأرض. وإنما قال ذلك لأنه خلق آدم من الأرض، فخرج الخطاب لهم إذ كان ذلك فعله بمن هم منه "وَاسْتَعْمَركُمْ فَيها" يقول: وجعلكم عُمّارا فيها، فكان المعنى فيه: أسكنكم فيها أيام حياتكم...

"فاسْتَغْفِرُوهُ" يقول: اعملوا عملاً يكون سببا لستر الله عليكم ذنوبكم، وذلك الإيمان به وإخلاص العبادة له دون ما سواه واتباع رسوله صالح.

"ثُمّ تُوبُوا إلَيْهِ" يقول: ثم اتركوا من الأعمال ما يكرهه ربكم إلى ما يرضاه ويحبه.

"إنّ رَبيّ قَرِيبٌ مُجِيبٌ" يقول: إن ربي قريب ممن أخلص له العبادة ورغب إليه في التوبة، مجيب له إذا دعاه...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

(قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) إن الرسل جميعا، صلوات الله عليهم، أول ما دعوا قومهم إنما دعوا إلى توحيد الله، وجعل العبادة له، لأن غيره من العبادات إنما تقوم بالتوحيد، وكان أول ما دعوا قومهم إليه لم يزل عادة الرسل، وعلموهم الدعاء إلى توحيد الله والعبادة له.

(هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ) قال بعض أهل التأويل: (هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ) يقول: هو خلقكم من آدم، وخلق آدم من الأرض. لكنه أضاف خلق الخلائق إليها كما أضاف في قوله: (هو الذي خلقكم من نفس واحدة) الآية [الأعراف: 189] أخبر أنه خلقنا من نفسه أي آدم، وإن لم تكن أنفسنا فيه. فعلى ذلك إضافته إيانا بالخلق من الأرض، وإن لم يخلق أنفسنا منها؛ أي خلق أصلنا، وأنشأه من الأرض، فأضاف إنشاءنا إلى ما أنشأ أصلنا. ويشبه إن يكون قوله: (أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ) أي جعل نشْء الخلائق كلهم ونماءهم وحياتهم ومعاشهم بالخارج من الأرض؛ إذ به نشأتهم ونماؤهم وحياتهم وقوامهم منها.

(وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) قال بعضهم: أسكنكم فيها،

وقال بعضهم: استخلفكم فيها،

وقال غيرهم: قوله (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) أي جعلكم عمار الأرض؛ تعمرونها لمعادكم ومعاشكم، جعل عمارة هذه الأرض إلى الخلق هم الذين يقومون بعمارتها وبنائها وأنواع الانتفاع بها، ويرجع كله إلى واحد...

(فاستغفروه ثم توبوا إليه) هذا قد ذكرنا في ما تقدم في قصة نوح: أي كونوا بحال، يغفر لكم هو كقوله: (إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) [الأنفال: 38] كأنه قال: فإن انتهوا عن الكفر يغفر لهم.

(إن ربي قريب مجيب) لحفظ الخلائق، أو قريب لمن أنعم عليهم وأمثالهم، أو قريب إلى كل من يفزع إليه، مجيب لدعاء كل داع استجاب له كقوله: (وإذا سألك عبادي عني فإني) الآية [البقرة: 186]...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

عُقَيْبَ ما مضى من قصة عادٍ ذَكَرَ ثمود، وثمود هم قوم صالح، وقد انخرطوا في الغيِّ في سِلْكِ مَنْ سَبَقَهم، فَلَحِقَت العقوبةُ بجميعهم...

أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :

{واستَعْمَرَكُم فِيهَا}: يدل على وجوب عمارة الأرض، فإن الاستعمار طلب العمارة، والطلب المطلق من الله تعالى للوجوب...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{هُوَ أَنشَأَكُمْ مّنَ الأرض} لم ينشئكم منها إلا هو، ولم يستعمركم فيها غيره. وإنشاؤهم منها خلق آدم من التراب {واستعمركم فِيهَا} وأمركم بالعمارة...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما انقضت قصة عاد على ما أراد سبحانه، أتبعها قصة من كانوا عقبهم في الزمن ومثلهم في سكنى أرض العرب وعبادة الأوثان والمناسبة في الأمر المعذب به لأن الموصل للصيحة إلى الأسماع هو الريح وفي خفاء أمرهم، مفصلاً على أهل ذلك الزمان فقال: {وإلى} أي ولقد أرسلنا إلى {ثمود أخاهم} وبينه بقوله: {صالحاً} ثم أخرج قوله صلى الله عليه وسلم على تقدير سؤال فقال: {قال يا قوم} أي يا من يعز عليّ أن يحصل لهم سوء {اعبدوا الله} أي الملك الأعظم وحده لأن عبادتكم له مع غيره ليست بشيء؛ ثم استأنف تفسير ذلك فقال: {ما لكم} أغرق في النفي فقال: {من إله غيره} جرياً على منهاج الدعاة إلى الله في أصل الدين، وهو إفراد المنعم بالعبادة. ولما أمرهم بذلك، ذكرهم قدرته ونعمته مرغباً مرهباً فقال: {هو} أي وحده {أنشأكم} أي ابتدأ خلقكم {من الأرض} بخلق آدم عليه السلام منها بغير واسطة وبخلقكم من المني من الدم وهو من الغذاء وهو من النبات وهو من الأرض كما أنشأ أوثانكم منها {و} رفع مقداركم عليها بأن {استعمركم} أي أهلكم لما لم يؤهل له الأوثان من أن تكونوا عماراً {فيها} فلا تنسوا حق إلهكم وما فضلكم به من حق أنفسكم بخضوعكم لما لا يساويكم فكيف بمن أنشأكم وإياها؛ والإنشاء: الابتداء بالإيجاد من غير استعانة بشيء من الأسباب. ولما بين لهم سبحانه عظمته، وكان الشيطان قد شبه عليهم أنه لعظمته لا يوصل إليه بوسيلة كما هو حال الملوك وألقى إليهم أن الأوثان وسائل، نفى ذلك مبيناً طريق الرجوع إليه بقوله: {فاستغفروه} أي فأقبلوا بكل قلوبكم عليه طالبين أن يستر ذنوبكم؛ وذكر شرط المغفرة بقوله مشيراً بأداة البعد إلى عظيم المنزلة: {ثم توبوا} أي ارجعوا بجميع قلوبكم {إليه} ثم علل ذلك بلطفه وعطفه ترغيباً في الإقبال إليه فقال مؤكداً لأن من يرى إمهاله للعصاة يظن الظنون ومن عصاه كان عمله عمل من ينكر قربه وإجابته: {إن ربي} الذي أخلصت له العبادة لإحسانه إليّ وأدعوكم إلى الإخلاص له لإحسانه إليكم {قريب} من كل من أقبل إليه من غير حاجة إلى معاناة مشي ولا حركة جارحة {مجيب} لكل من ناداه لا كمعبوداتكم في الأمرين معاً...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} هذا نص ما تقدم في تبليغ هود عليهما السلام، ثم قال: {هو أنشأكم من الأرض} أي هو بدأ خلقكم من الأرض بخلق أبيكم آدم منها مباشرة ثم بخلق كل منكم من سلالة من طين الأرض، فإن النطفة التي تتحول في الرحم إلى علقة فمضغة فهيكل عظمي يحيط به لحم هي من الدم، والدم من الغذاء، والغذاء الغالب إما نبات من الأرض، وإما لحم يرجع إلى النبات في طور واحد أو أكثر {واستعمركم فيها} أي وجعلكم عمارا فيها من العمران فقد كانوا زراعا وصناعا وبنائين {وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين} [الحجر: 82] وقيل من العمر أي أطال أعماركم فيها والصحيح الأول، واستعمل الاستعمار في عصرنا بمعنى استيلاء الدول القوية على بلاد المستضعفين واستثمارهم واستعباد أهلها لمصالحهم، والمراد أنه هو المنشئ لخلقكم والممدكم بأسباب العمران والنعم فيها فلا يصح أن تعبدوا فيها غيره، لأنه هو صاحب الفضل كله، والمستحق للعبادة وحده.

{فاستغفروه ثم توبوا إليه} أي فاسألوه أن يغفر لكم ما أشركتم وما أجرمتم ثم توبوا وارجعوا إليه كلما وقع منكم ذنب أو خطأ، وتقدم مثله في دعوة هود قريبا وفي دعوة محمد صلى الله عليه وسلم في أول السورة {إن ربي قريب مجيب} قريب من عباده لا يخفى عليه شيء من استغفارهم والباعث عليه من أحوالهم، مجيب لدعاء من دعاه مؤمنا مخلصا له الدين كما قال في سورة البقرة {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} [البقرة: 186] فيراجع تفسيرها المفصل هنالك.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

{هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} أي: خلقكم فيها {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} أي: استخلفكم فيها، وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة، ومكنكم في الأرض، تبنون، وتغرسون، وتزرعون، وتحرثون ما شئتم، وتنتفعون بمنافعها، وتستغلون مصالحها، فكما أنه لا شريك له في جميع ذلك، فلا تشركوا به في عبادته...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

الإنشاء من الأرض خلق آدم من الأرض لأنّ إنشاءه إنشاء لنسله، وإنّما ذكر تعلّق خلقهم بالأرض لأنّهم كانوا أهل غرس وزرع، كما قال في سورة [الشعراء: 146 148] {أتتْركون فيما هاهنا آمنين في جنّاتٍ وعيونٍ وزروعٍ ونخلٍ طلعها هضيمٌ} ولأنّهم كانوا ينحتون من جبال الأرض بيوتاً ويبنون في الأرض قصوراً، كما قال في الآية الأخرى: {وبوّأكم في الأرض تتّخذون من سهولها قصُوراً وتنحتون الجبال بيوتاً} [الأعراف: 74]، فكانت لهم منافع من الأرض تناسب نعمة إنشائهم من الأرض فلأجل منافعهم في الأرض قيّدت نعمة الخلق بأنّها من الأرض التي أنشئوا منها، ولذلك عطف عليه {واستعمركم فيها}. والاستعمار: الإعمار، أي جعلكم عامرينها، فالسّين والتاء للمبالغة كالتي في استبقَى واستفاق. ومعنى الإعمار أنهم جَعلوا الأرض عامرة بالبناء والغرس والزرع لأنّ ذلك يعدّ تعميراً للأرض حتى سمي الحرث عِمارة لأنّ المقصود منه عَمر الأرض. وفرع على التذكير بهذه النعم أمرهم باستغفاره والتّوبة إليه، أي طلب مغفرة أجرامهم، والإقلاع عمّا لا يرضاه من الشرك والفساد. ومن تفنّن الأسلوب أن جعلت هذه النعم علّة لأمرهم بعبادة الله وحده بطريق جملة التّعليل، وجعلت علّة أيضاً للأمر بالاستغفار والتّوبة بطريق التّفريع...

وجملة {إنّ ربّي قريب مجيب} استئناف بيانيّ كأنهم استعظموا أن يكون جرمهم ممّا يقبل الاستغفار عنه، فأجيبوا بأنّ الله قريب مجيب، وبذلك ظهر أنّ الجملة ليست بتعليل. وحرف {إنّ} فيها للتّأكيد تنزيلاً لهم في تعظيم جرمهم منزلة من يشكّ في قبول استغفاره. والقرب: هنا مستعار للرأفة والإكرام، لأنّ البعد يستعار للجفاء والإعراض...

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

يقول صالح {فاستغفروه} أي اطلبوا غفرانه بأن يستر ما ارتكبتم من ذنوب وينشئكم نشأة طاهرة طيبة، وبعد الاستغفار توبوا إليه {ثم توبوا إليه} أي ارجعوا إليه بعد أن بعدتم عنه بالشرك، وعبر بكلمة {ثم} للدلالة على بعد حالهم في الانتقال من الاستغفار إلى الرجوع إلى الله تعالى؛ لأن الاستغفار طلب محو الذنوب أو سترها، وتلك أول خطوة في ترك الكفر والشرك، وتعلوها مرتبة الاتصال بالله لقبول التوبة، ولذا قال تعالى على لسان نبيه بعد {إن ربي قريب مجيب} وهذا إدناء إلى التوبة وتقريب لها، أي أن الله تعالى في عليائه قريب إلى النفوس التائبة محب للدعاء والرجوع إليه، وذلك رد على أوهامهم التي يقولون فيها أنهم شفعاؤنا عند الله، وقولهم ما نعبد إلا ليقربونا إلى الله زلفى، فصالح يقول لهم: {إن ربي قريب مجيب} فلا حاجة إلى شفاعة الشافعين، إن كان يتصور أن يكون في هذه الحجارة شفاعة. وفي قوله تعالى: {إن ربي قريب مجيب} إشارات بيانية منها تأكيد القول بالجملة الاسمية وبكلمة "إن". وفيها التعبير {ربي} وذلك يفيد أنه مربيه ومنشؤه، ومربيهم ومنشؤهم فكيف لا يكون قريب منهم وهو الحي القيوم في السموات والأرض. ومنها ذكر كلمة {مجيب} وفيه إشارة إلى أنه سبحانه هو الذي يدعي فيجيب لا تلك الأحجار التي لا تضر ولا تنفع فلا تجيب دعاء ولا تسمع نداء، وماذا كانت إجابة قومه إلى تلك الدعوة الحق...

التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :

أول ما يواجهنا من قصة صالح أن الدعوة التي وجهها إلى قومه ثمود هي صورة طبق الأصل من دعوة من سبقه من الأنبياء والمرسلين، وخلاصتها الأمر بعبادة الله دون سواه، والتعريف بأنه لا إله في الحقيقة إلا الله، فهذا هو مفتاح الدعوة ومدخلها الوحيد إلى تحرير الإنسان، من كل عبودية لأخيه الإنسان، سواء كانت تلك العبودية عبودية جسمية للطغاة المتجبرين، أو عبودية وهمية للدجاجلة المشعوذين...

ثم بين صالح لقومه ثمود أن الله تعالى هو وحده الذي يستحق أن يرجى ويخاف، وأن يطاع أمره، ويتجنب نهيه، فهو الذي بيده الإعطاء والمنع، وعلى يده الضر والنفع، وهو مصدر كل النعم التي يتمتع بها الإنسان بدءا واستمرارا، وما دام الإنسان مدينا بوجوده أولا، وبرزقه ثانيا للحق سبحانه وتعالى، فالمنطق السليم يقضي على الإنسان بأن يتوجه إليه، ويعتمد عليه، وما دامت أقرب وسلة للتحلي بالفضائل هي التخلي عن الرذائل، فما على الإنسان إلا أن يستغفر الله ويقبل عليه، فيجده أقرب إليه من نفسه التي بين جنبيه...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرْضِ} فمنها خلقتم، فأنتم جزءٌ من ترابها، ولكن بصورة أخرى، تتحرك فيها الحياة، وينطلق معها الفكر، {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} أي وطلب منكم عمرانها وإحياءها، بما تملكونه من طاقات الفكر وإمكانات العمل، للاستمرار في العيش، لأن للعيش شروطاً، لا بد للإنسان من توفيرها وتحصيلها إذا وجّه طاقاته نحوها، وهذا ما سخّره الله للإنسان في ما أودعه في الأرض من ثروات، وفي ما أعدّه من أدوات، ومكّنه فيها من قدرات. وفي هذا الجو، لا بد للإنسان من عيش الإحساس العميق بالارتباط بالله، عند استجابته لدعوة الأرض للارتباط بها، ليعرف بأنّ ارتباطه التكويني بالأرض من خلال قدرة الله، يفرض عليه الانفصال العملي عنها، عندما تقوده إلى التمرُّد على الله، أو عندما تثير فيه ميل الاستسلام للشهوات، بعيداً عن خط المبادئ، وحركة الرسالات، لأن الله، الذي خلق الأرض، وخلق الإنسان منها، هو الذي يحكم في كل ما يدور فيها، ويتحرك عليها، لأنه صاحب السلطة في ذلك كله، وهو العالم بالصلاح والفساد في جميع موارده ومصادره...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

لاحظنا في الآيات المتقدمة أنّ نبي الله «صالحاً» من أجل هداية وتربية قومه الضالين «ثمود» ذكرهم بعظيم خلق الله لهم من التراب.. وتفويض إعمار الأرض إليهم إذ قال: (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها). لكن هذه الكلمة مع جمالها الخاص وجاذبيتها التي تعني العمران وتفويض الاختيارات وإعداد الوسائل اللازمة وتهيئتها، تبدّلت هذه الكلمة في عصرنا إلى درجة أنّها مُسخت وأصبحت تعطي معنىً معاكساً لمفهوم القرآن تماماً. وليست كلمة الاستعمار وحدها انتهت إلى هذا المصير المشؤوم، فهناك كلمات كثيرة في العربية وفي لغات أُخرى مسخت وحُرّفت وتبدّلت وانقلبت رأساً على عقب، مثل كلمات «الحضارة» و«الثقافة» و «الحرية» وفي ظلال هذه التحريفات تأخذ هذه الكلمات وأمثالها طريقها إلى التغرّب والبعد عن معناها، وتتحول لعبادة المادة وأسر الناس وإنكار الحقائق والتوغل في كل أنواع الفساد وما إلى ذلك. وعلى كل حال، فإنّ معنى «الاستعمار» في عصرنا ومفهومه الواقعي هو «استيلاء الدول العظمى السياسية والصناعية على الأمم المستضعفة قليلة القدرة، بحيث تكون نتيجة هذا «الاستيلاء» وهذه «الغارة» امتصاص دمائهم وسلب خيراتهم ومصادرة حياتهم. هذا الاستعمار الذي له أوجه شؤم مختلفة، يتجسم مرّة بشكل «ثقافي» وأُخرى بوجه «فكري» وثالثة بوجه «اقتصادي» ورابعة بوجه «سياسي» وقد يبدو بوجه «عسكري» أيضاً، وهو الذي بدل دنيانا وجعلها سوداء مظلمة، فالأقلية في هذه الدنيا لديهم كل شيء، والأكثرية العظمى فاقدة لكل شيء هذا الاستعمار هو السبب في الحروب والدمار والانحرافات والفساد والتسابق التسليحي الذي يقصم الظهر...