ثم يستطرد في عرض دلائل القدرة وتبسيط قضية الخلق والإعادة للبشر أجمعين :
( أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم ? بلى وهو الخلاق العليم ) . .
والسماوات والأرض خلق عجيب هائل دقيق . . هذه الأرض التي نعيش عليها ويشاركنا ملايين الأجناس والأنواع ، ثم لا نبلغ نحن شيئاً من حجمها ، ولا شيئاً من حقيقتها ، ولا نعلم عنها حتى اليوم إلا القليل . . هذه الأرض كلها تابع صغير من توابع الشمس التي تعيش أرضنا الصغيرة على ضوئها وحرارتها . . وهذه الشمس واحدة من مائة مليون في المجرة الواحدة التي تتبعها شمسنا ، والتي تؤلف دنيانا القريبة ! وفي الكون مجرات أخرى كثيرة . أو دنييات كدنيانا القريبة . عد الفلكيون حتى اليوم منها مائة مليون مجرة بمناظيرهم المحدودة . وهم في انتظار المزيد كلما أمكن تكبير المناظير والمراصد . وبين مجرتنا أو دنيانا والمجرة التالية لها نحو خمسين وسبع مائة ألف سنة ضوئية [ السنة الضوئية تقدر بستة وعشرين مليون مليون من الأميال ! ] . . وهناك كتل ضخمة من السدم التي يظن أنه من نثارها كانت تلك الشموس . وهذا هو الجزء الذي يدخل في دائرة معارفنا الصغيرة المحدودة !
تلك الشموس التي لا يحصيها العد . لكل منها فلك تجري فيه . ولمعظمها توابع ذات مدارات حولها كمدار الأرض حول الشمس . . وكلها تجري وتدور في دقة وفي دأب . لا تتوقف لحظة ولا تضطرب . وإلا تحطم الكون المنظور واصطدمت هذه الكتل الهائلة السابحة في الفضاء الوسيع . .
هذا الفضاء الذي تسبح فيه تلك الملايين التي لا يحصيها العد ، كأنها ذرات صغيرة . لا نحاول تصويره ولا تصوره . . فذلك شيء يدير الرؤوس !
( أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم ? ) . .
يقول تعالى منبهًا على قدرته العظيمة في خلق السموات السبع ، بما فيها من الكواكب السيارة والثوابت ، والأرضين السبع وما فيها من جبال ورمال ، وبحار وقفار ، وما بين ذلك ، ومرشدًا إلى الاستدلال على إعادة الأجساد بخلق هذه الأشياء العظيمة ، كقوله تعالى : { لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ } [ غافر : 57 ] . وقال هاهنا : { أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ } أي : مثل البشر ، فيعيدهم كما بدأهم . قاله ابن جرير . {[24890]}
وهذه الآية كقوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ الأحقاف : 33 ] ، وقال : { بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ } .
عطف هذا التقرير على الاحتجاجات المتقدمة على الإِنسان المعني من قوله تعالى : { أو لم ير الإنسانُ أنَّا خلقناهُ مِن نُطْفَةٍ } [ يس : 77 ] ، وذلك أنه لما تبيّن الاستدلال بخلق أشياء على إمكان خَلق أمثالها ارتُقِي في هذه الآية إلى الاستدلال بخلق مخلوقات عظيمة على إمكان خلق مَا دونها .
وجيء في هذا الدليل بطريقة التقرير الذي دل عليه الاستفهام التقريري لأن هذا الدليل لوضوحه لا يسع المُقِرّ إلا الإِقرار به فإن البديهة قاضية بأن مَن خلق السماوات والأرض هو على خلق نَاس بعد الموت أقدر . وإنما وجه التقرير إلى نفي المقرَّر بثبوته توسعة على المقرَّر إن أراد إنكاراً مع تحقق أنه لا يسعه الإِنكار فيكون إقراره بعد توجيه التقرير إليه على نفي المقصود ، شاهداً على أنه لا يستطيع إلا أن يقرّ ، وأمثال هذا الاستفهام التقريري كثيرة .
وقرأ الجمهور { بقادر } بالباء الموحدة وبألف بعد القاف وجرّ الاسم بالباء المزيدة في النفي لتأكيده . وقرأه رويس عن يعقوب بتحتية بصيغة المضارع { يَقدر } . ولكون ذلك كذلك عقب التقرير بجواب عن المقرر بكلمة { بلى } التي هي لنقض النفي ، أي بلى هو قادر على أن يخلق مثلهم .
وضمير { مِثلَهُم } عائد إلى { الإنْسانُ } في قوله : { أو لم ير الإنسانُ } [ يس : 77 ] على تأويله بالناس سواء كان المراد بالإِنسان في قوله : { أو لم ير الإنسانُ أنَّا خلقناهُ من نُطْفة } [ يس : 77 ] شخصاً معيّناً أم غير شخص ، فالمقصود هو وأمثاله من المشايعين له على اعتقاده وهم المشركون بمكة ، أي قادر على أن يخلق أمثالهم ، أي أجساداً على صورهم وشَبههم لأن الأجسام المخلوقة للبعث هي أمثال الناس الذين كانوا في الدنيا مركبين من أجزائهم فإن إعادة الخلق لا يلزم أن تكون بجمع متفرق الأجسام بل يجوز كونها عن عدمها ، ولعل ذلك كيفيات ، فالأموات الباقية أجسادها تُبثّ فيها الحياة ، والأموات الذين تفرقت أوصالهم وتفسخت يعاد تصويرها ، والأجساد التي لم تبق منها باقية تعاد أجساد على صورها لتودع فيها أرواحهم ، ألا ترى أن جسد الإِنسان يتغير على حالته عند الولادة ويكبر وتتغير ملامحه ، ويجدّد كل يوم من الدم واللحم بقدر ما اضمحلّ وتبخّر ولا يعتبر ذلك التغير تبديلاً لذاته فهو يُحسّ بأنه هو هو والناس يميّزونه عن غيره بسبب عدم تغير الروح . وفي آيات القرآن ما يدل على هذه الأحوال للمعاد ، ولذلك اختلف علماء السنّة في أن البعث عن عدم أو عن تفريق كما أشار إليه سيف الدين الآمدي في « أبْكار الأفكار » ومودعة فيها أرواحهم التي كانت تدبر أجسامهم فإن الأرواح باقية بعد فناء الأجساد .
وجملة { وهُوَ الخَلّاقُ العَلِيمُ } مُعترضة في آخر الكلام ، والواو اعتراضية ، أي هو يخلق خلائق كثيرة وواسع العلم بأحوالها ودقائق ترتيبها .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أوليس الذي خلق السماوات والأرض} هذا أعظم خلقا من خلق الإنسان.
ثم قال لنفسه تعالى: {بلى} قادر على ذلك.
{وهو الخلاق العليم} بخلقهم في الآخرة العليم ببعثهم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"أوَ لَيْسَ الّذِي خَلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضَ بِقادِرٍ عَلى أنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ" يقول تعالى ذكره منبها هذا الكافر الذي قال: "مَنْ يُحْيي العِظامَ وَهيَ رَميمٌ "على خطأ قوله، وعظيم جهله "أوَ لَيْسَ الّذِي خَلَقَ السّمَوَات" السبع "والأرْضَ بقادِرٍ عَلى أنْ يَخْلُقَ" مثلكم، فإن خلق مثلكم من العظام الرميم ليس بأعظم من خلق السموات والأرض. يقول: فمن لم يتعذّر عليه خلق ما هو أعظم من خلقكم، فكيف يتعذّر عليه إحياء العظام بعد ما قد رمّت وبَلِيَت؟ وقوله: "بلَى وَهُوَ الخَلاّقُ العَليمُ" يقول: بلى هو قادر على أن يخلق مثلهم وهو الخلاق لما يشاء، الفعّال لما يريد، العليم بكلّ ما خلق ويخلق لا يخفى عليه خافية.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أو ليس من قدر على إنشاء السماوات والأرض مبتدأ لا من شيء ولا أصل لا يحتمل أن يعجزه إعادة الخلق وبعثهم.
أو يقول: إن من قدر على خلق السماوات والأرض وما فيهما لقادر على أن يخلق مثلهم، وخلق المثل إعادة؛ لأنه إنما يكون بعد هلاك الذين أنشأهم وبعد إماتتهم، أو يخلق مثلهم مع بقائهم سواهم. وفي ذلك ابتداء خلق وإعادة، فيلزمهم الإقرار بالبعث والقدرة على الإعادة.
ثم أخبر عن قدرته فقال: {بلى وهو الخلاّق العليم} أي هو خلق كل شيء من جواهر الأشياء وأفعالهم، أو هو الخلاّق في الدنيا والآخرة.
{العليم} يحتمل وجوها: يحتمل العليم ببعثهم، أو العليم بمصالحهم ومعاشهم وما لا يصلح، أو العليم بأحوالهم وأنفسهم ما ظهر منهم، وما بطن، وما أسرّوا، وأعلنوا.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
الخلاق هو الذي يخلق مرة بعد مرة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَهُوَ الخلاق} الكثير المخلوقات {العليم} الكثير المعلومات.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذا تقرير وتوقيف على أمر تدل صحته على صحة بعث الأجساد من القبور وإعادة الموتى.
وجمع الضمير جمع من يعقل في قوله {مثلهم} من حيث كانتا متضمنتين من يعقل من الملائكة والثقلين، هذا تأويل جماعة من المفسرين، وقال الرماني وغيره: الضمير في مثلهم عائد على الناس.
قال القاضي أبو محمد: فهم مثال للبعث، وتكون الآية نظير قوله تعالى: {لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس} [غافر: 57].
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
{عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم}؟! وهذا استفهام تقرير؛ والمعنى: من قدر على ذلك العظيم، قدر على هذا اليسير.
{أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم} قدم ذكر النار في الشجر على ذكر الخلق الأكبر؛ لأن استبعادهم كان بالصريح واقعا على الأحياء حيث قالوا: {من يحي العظام} [يس: 78] ولم يقولوا من يجمعها ويؤلفها، والنار في الشجر تناسب الحياة.
{بلى وهو الخلاق} إشارة إلى أنه في القدرة كامل.
{العليم} إشارة إلى أن علمه شامل.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان التقدير: أليس الذي قدر على ذلك بقادر على ما يريد من إحياء العظام وغيرها، عطف عليه ما هو أعظم شأناً منه تقريراً على الأدنى بالأعلى فقال: {أوليس الذي خلق} أي أوجد من العدم وقدر.
{السماوات والأرض} أي على كبرهما وعظمتهما وعظيم ما فيهما من المنافع والمصانع والعجائب والبدائع، وأثبت الجار تحقيقاً للأمر وتأكيداً للتقرير فقال: {بقادر} أي بثابت له قدرة لا يساويها قدرة، ومعنى قراءة رويس عن يعقوب بتحتانية مفتوحة وإسكان القاف من غير ألف ورفع الراء أنه يجدد تعليق القدرة على سبيل الاستمرار.
{على أن يخلق} ولفت الكلام إلى الغيبة إيذاناً بأنهم صاروا بهذا الجدل أهلاً لغاية الغضب فقال: {مثلهم} أي مثل هؤلاء الأناسي أي يعيدهم بأعيانهم كما تقول: مثلك كذا أي أنت، وعبر به إفهاماً لتحقيرهم وأن إحياء العظام الميتة أكثر ما يكون خلقاً جديداً، بل ينقص عن الاختراع بأن له مادة موجودة، وعبر بضمير الجمع؛ لأنه أدل على القدرة، قال الرازي: والقدرة عبارة عن المعنى الذي به يوجد الشيء مقدراً بتقدير الإرادة والعلم، واقعاً على وفقهما، وإن كانت صفات الله تعالى أعلى من أن يطمحها نظر عقل، وتلحقها العبارات اللغوية، ولكن غاية القدرة البشرية واللغة العربية هذا.
ولما كان الجواب بعد ما مضى من الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة الاعتراف، قال سبحانه مقرراً لما بعد النفي إشارة إلى أنه تجب المبادرة إليه، ولا يجوز التوقف فيه، ومن توقف فهو معاند: {بلى} أي هو قادر على ذلك {وهو} مع ذلك أي كونه عالماً بالخلق.
{الخلاق} البالغ في هذه الصفة مطلقاً في تكثير الخلق وتكريره بالنسبة إلى كل شيء ما لا تحيط به الأوهام، ولا تدركه العقول والأفهام، ولم ينازع أحد في العلم بالجزئيات بعد كونها، كما نازعوا في القدرة على إيجاد بعض الجزئيات، فاكتفى فيه بصيغة فعيل فقيل: {العليم *} أي البالغ في العلم الذي هو منشأ القدرة، فلا يخفى عليه كلي ولا جزئي في ماضٍ ولا حال ولا مستقبل شاهد أو غائب.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يستطرد في عرض دلائل القدرة وتبسيط قضية الخلق والإعادة للبشر أجمعين:
(أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم؟ بلى وهو الخلاق العليم)..
والسماوات والأرض خلق عجيب هائل دقيق.. هذه الأرض التي نعيش عليها ويشاركنا ملايين الأجناس والأنواع، ثم لا نبلغ نحن شيئاً من حجمها، ولا شيئاً من حقيقتها، ولا نعلم عنها حتى اليوم إلا القليل.. هذه الأرض كلها تابع صغير من توابع الشمس التي تعيش أرضنا الصغيرة على ضوئها وحرارتها.. وهذه الشمس واحدة من مائة مليون في المجرة الواحدة التي تتبعها شمسنا، والتي تؤلف دنيانا القريبة! وفي الكون مجرات أخرى كثيرة. أو دنييات كدنيانا القريبة. عد الفلكيون حتى اليوم منها مائة مليون مجرة بمناظيرهم المحدودة. وهم في انتظار المزيد كلما أمكن تكبير المناظير والمراصد. وبين مجرتنا أو دنيانا والمجرة التالية لها نحو خمسين وسبع مائة ألف سنة ضوئية [السنة الضوئية تقدر بستة وعشرين مليون مليون من الأميال!].. وهناك كتل ضخمة من السدم التي يظن أنه من نثارها كانت تلك الشموس. وهذا هو الجزء الذي يدخل في دائرة معارفنا الصغيرة المحدودة!
تلك الشموس التي لا يحصيها العد. لكل منها فلك تجري فيه. ولمعظمها توابع ذات مدارات حولها كمدار الأرض حول الشمس.. وكلها تجري وتدور في دقة وفي دأب. لا تتوقف لحظة ولا تضطرب. وإلا تحطم الكون المنظور واصطدمت هذه الكتل الهائلة السابحة في الفضاء الوسيع..
هذا الفضاء الذي تسبح فيه تلك الملايين التي لا يحصيها العد، كأنها ذرات صغيرة. لا نحاول تصويره ولا تصوره.. فذلك شيء يدير الرؤوس!
(أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم؟)..
وأين الناس من ذلك الخلق الهائل العجيب؟
عطف هذا التقرير على الاحتجاجات المتقدمة على الإِنسان المعني من قوله تعالى: {أو لم ير الإنسانُ أنَّا خلقناهُ مِن نُطْفَةٍ} [يس: 77]، وذلك أنه لما تبيّن الاستدلال بخلق أشياء على إمكان خَلق أمثالها ارتُقِي في هذه الآية إلى الاستدلال بخلق مخلوقات عظيمة على إمكان خلق مَا دونها.
وجيء في هذا الدليل بطريقة التقرير الذي دل عليه الاستفهام التقريري لأن هذا الدليل لوضوحه لا يسع المُقِرّ إلا الإِقرار به فإن البديهة قاضية بأن مَن خلق السماوات والأرض هو على خلق نَاس بعد الموت أقدر. وإنما وجه التقرير إلى نفي المقرَّر بثبوته توسعة على المقرَّر إن أراد إنكاراً مع تحقق أنه لا يسعه الإِنكار فيكون إقراره بعد توجيه التقرير إليه على نفي المقصود، شاهداً على أنه لا يستطيع إلا أن يقرّ، وأمثال هذا الاستفهام التقريري كثيرة.
وقرأ الجمهور {بقادر} بالباء الموحدة وبألف بعد القاف وجرّ الاسم بالباء المزيدة في النفي لتأكيده. وقرأه رويس عن يعقوب بتحتية بصيغة المضارع {يَقدر}. ولكون ذلك كذلك عقب التقرير بجواب عن المقرر بكلمة {بلى} التي هي لنقض النفي، أي بلى هو قادر على أن يخلق مثلهم.
وضمير {مِثلَهُم} عائد إلى {الإنْسانُ} في قوله: {أو لم ير الإنسانُ} [يس: 77] على تأويله بالناس سواء كان المراد بالإِنسان في قوله: {أو لم ير الإنسانُ أنَّا خلقناهُ من نُطْفة} [يس: 77] شخصاً معيّناً أم غير شخص، فالمقصود هو وأمثاله من المشايعين له على اعتقاده وهم المشركون بمكة، أي قادر على أن يخلق أمثالهم، أي أجساداً على صورهم وشَبههم لأن الأجسام المخلوقة للبعث هي أمثال الناس الذين كانوا في الدنيا مركبين من أجزائهم فإن إعادة الخلق لا يلزم أن تكون بجمع متفرق الأجسام بل يجوز كونها عن عدمها، ولعل ذلك كيفيات، فالأموات الباقية أجسادها تُبثّ فيها الحياة، والأموات الذين تفرقت أوصالهم وتفسخت يعاد تصويرها، والأجساد التي لم تبق منها باقية تعاد أجساد على صورها لتودع فيها أرواحهم، ألا ترى أن جسد الإِنسان يتغير على حالته عند الولادة ويكبر وتتغير ملامحه، ويجدّد كل يوم من الدم واللحم بقدر ما اضمحلّ وتبخّر ولا يعتبر ذلك التغير تبديلاً لذاته فهو يُحسّ بأنه هو هو والناس يميّزونه عن غيره بسبب عدم تغير الروح. وفي آيات القرآن ما يدل على هذه الأحوال للمعاد، ولذلك اختلف علماء السنّة في أن البعث عن عدم أو عن تفريق كما أشار إليه سيف الدين الآمدي في « أبْكار الأفكار» ومودعة فيها أرواحهم التي كانت تدبر أجسامهم فإن الأرواح باقية بعد فناء الأجساد.
وجملة {وهُوَ الخَلّاقُ العَلِيمُ} مُعترضة في آخر الكلام، والواو اعتراضية، أي هو يخلق خلائق كثيرة وواسع العلم بأحوالها ودقائق ترتيبها.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جيء في هذا الدليل بطريقة التقرير الذي دل عليه الاستفهام التقريري؛ لأن هذا الدليل لوضوحه لا يسع المُقِرّ إلا الإِقرار به، فإن البديهة قاضية بأن مَن خلق السماوات والأرض هو على خلق نَاس بعد الموت أقدر. وإنما وجه التقرير إلى نفي المقرَّر بثبوته توسعة على المقرَّر إن أراد إنكاراً مع تحقق أنه لا يسعه الإِنكار؛ فيكون إقراره بعد توجيه التقرير إليه على نفي المقصود، شاهداً على أنه لا يستطيع إلا أن يقرّ، وأمثال هذا الاستفهام التقريري كثيرة.
وقرأ الجمهور {بقادر} بالباء الموحدة وبألف بعد القاف وجرّ الاسم بالباء المزيدة في النفي لتأكيده. وقرأه رويس عن يعقوب بتحتية بصيغة المضارع {يَقدر}. ولكون ذلك كذلك عقب التقرير بجواب عن المقرر بكلمة {بلى} التي هي لنقض النفي، أي بلى هو قادر على أن يخلق مثلهم.
وضمير {مِثلَهُم} عائد إلى {الإنْسانُ} في قوله: {أو لم ير الإنسانُ} [يس: 77] على تأويله بالناس سواء كان المراد بالإِنسان في قوله: {أو لم ير الإنسانُ أنَّا خلقناهُ من نُطْفة} [يس: 77] شخصاً معيّناً أم غير شخص، فالمقصود هو وأمثاله من المشايعين له على اعتقاده وهم المشركون بمكة، أي قادر على أن يخلق أمثالهم، أي أجساداً على صورهم وشَبههم؛ لأن الأجسام المخلوقة للبعث هي أمثال الناس الذين كانوا في الدنيا مركبين من أجزائهم فإن إعادة الخلق لا يلزم أن تكون بجمع متفرق الأجسام بل يجوز كونها عن عدمها، ولعل ذلك كيفيات، فالأموات الباقية أجسادها تُبثّ فيها الحياة، والأموات الذين تفرقت أوصالهم وتفسخت يعاد تصويرها، والأجساد التي لم تبق منها باقية تعاد أجساد على صورها لتودع فيها أرواحهم، ألا ترى أن جسد الإِنسان يتغير على حالته عند الولادة ويكبر وتتغير ملامحه، ويجدّد كل يوم من الدم واللحم بقدر ما اضمحلّ وتبخّر، ولا يعتبر ذلك التغير تبديلاً لذاته فهو يُحسّ بأنه هو هو والناس يميّزونه عن غيره بسبب عدم تغير الروح. وفي آيات القرآن ما يدل على هذه الأحوال للمعاد، ولذلك اختلف علماء السنّة في أن البعث عن عدم أو عن تفريق كما أشار إليه سيف الدين الآمدي في « أبْكار الأفكار» ومودعة فيها أرواحهم التي كانت تدبر أجسامهم فإن الأرواح باقية بعد فناء الأجساد.
وجملة {وهُوَ الخَلّاقُ العَلِيمُ} مُعترضة في آخر الكلام، والواو اعتراضية، أي هو يخلق خلائق كثيرة وواسع العلم بأحوالها ودقائق ترتيبها.
هذا تَرقٍّ في الدليل، فبعد أنْ ذكر سبحانه آية جَعْل الشجر الأخضر ناراً، يسوق الدليل الأقوى، وهو خَلْق السماوات والأرض، السماوات دليل من العلو الثابت الذي لا يتغير، والأرض دليل ملامس لنا، نشاهده ونباشره. وحيثية هذه الآية جاءت في آية أخرى، حيث قال الحق سبحانه: {لَخَلْقُ السَّمَٰوَٰتِ وَالأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْـثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [غافر: 57].
فإنْ قُلْتَ: عَلِّلْ لنا أن خَلْق السماوات والأرض مع أنها لا تحس ولا تتكلم ولا تعلم.. الخ. أكبر من خَلْق الناس، نقول: نعم خَلْق السماوات والأرض أكبر من خَلْق الناس؛ لأنها منذ خلقها الله على حالها لم تتغير، وستظل إلى قيام الساعة، أما أنت أيها الإنسان فتموت، تموت وأنت طفل، بل وأنت جنين في بطن أمك، تموت وأنت شاب وأنت شيخ هَرِم، وقصارى ما يمكن أن تصل إليه لو عُمرت في الدنيا مائة عام أو يزيد عليها بضعة أعوام، فأين عمرك من عمر الشمس، أو القمر أو الأرض؟ وهَل رأيت خادماً أطول عمراً من مخدومه؟
إننا نتوارد على هذا الكون أفراداً وأمماً ودولاً، تذهب جميعها وتَفْنى وتبقى السماء والأرض كما هي شامخة عظيمة، لا يطرأ عليها تغيير، ولا تخرج عن قانون التسخير في شيء أبداً، ومنذ أن خلق الله هذا الكون ما رأينا كوكباً خرج عن فلكه، ولا تخلَّف عن موعده، أو امتنع عن أداء مهمته.
هذا حال الجمادات في السماوات والأرض، فما حالكم أنتم أيها العقلاء؟ لو تحدَّثنا في المادة فهي تبقى وأنتم تموتون، وفي المعاني والقيم تتساند هذه الجمادات، وأنتم تتعاندون وتختلفون وتتصارعون، فأيُّكم إذن أحسن خَلْقاً وأكبر؟
لذلك يجيب الحق سبحانه على هذا الاستفهام المنفي: {أَوَلَـيْسَ الَذِي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم..}.
فيقول (بَلَى) أي: نعم قادر {وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ} وخلاَّق صيغة مبالغة من خالق، ليؤكد هذه القضية لكل مكذِّب بها، وهو سبحانه {الْعَلِيمُ} أي: بمَنْ خلق.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إذا كنتم تشكّون في قدرته على الخلق فهو «الخلاّق» (وهي صيغة مبالغة).
وإذا كان جمع هذه الذرّات يحتاج إلى علم أو معرفة فهو «العليم» المطلق.
أمّا على ماذا يعود الضمير في «مثلهم» فقد احتمل المفسّرون احتمالات عديدة، ولكن أشهرها هو القول بعودة الضمير على «البشر» والمعنى: إنّ خالق السماء والأرض قادر على خلق مثل البشر.
وهنا يأتي السؤال التالي وهو لماذا لم يقل: قادر على أن يخلقهم من جديد، بل قال: (قادر على أن يخلق مثلهم)؟
وللإجابة على هذا السؤال ذكرت أجوبة كثيرة، يبدو أقربها: أنّ بدن الإنسان عندما يتحوّل أو بالأحرى يتحلّل إلى تراب، فإنّه يفقد الصورة النهائية التي كان عليها، وفي يوم القيامة عندما يعاد خلق هذا الإنسان من جديد، فإنّه سيخلق من نفس المواد ولكن بصورة جديدة تشبه الصورة القديمة، بلحاظ أنّ عودة نفس الصورة القديمة بالأخصّ إذا أخذنا في الاعتبار قيد الزمن غير ممكن، وخصوصاً إذا علمنا مثلا أنّ الإنسان لا يحشر بجميع المواصفات والكيفية التي كان عليها سابقاً، فإنّ الشيبة والشيوخ مثلا يحشرون شبّاناً، والمعلولين يحشرون سالمين، وهكذا.
وبتعبير آخر، فإنّ بدن الإنسان كالطابوق الطيني غير المفخور اللبن الذي يمرّ عليه الزمان فيتهدّم ويصبح تراباً، ثمّ يجمع من جديد وتصنع منه خميرة الطين ويوضع في قالب مرّة اُخرى ويصنع لَبِناً جديداً مرّة اُخرى. فهذا «اللَبِن» هو من جانب نفس «اللَبِن» القديم ومن جانب آخر «مثله» «مادّته هي نفس المادّة والصورة مثل الصورة السابقة» «دقّق النظر».