في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمَا يَفۡعَلُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَلَن يُكۡفَرُوهُۗ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِٱلۡمُتَّقِينَ} (115)

يتألف هذا الجزء من بقية سورة آل عمران ، ومن أوائل سورة النساء ، إلى قوله تعالى : ( والمحصنات من النساء . . . ) .

وهذه البقية من سورة آل عمران تتألف من أربعة مقاطع رئيسية ، تكمل خط سير السورة ، الذي أفضنا في الحديث عنه في مطلعها - في الجزء الثالث - بما لا مجال لإعادته هنا ، فيرجع إليه هناك . .

93

( كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل - إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة - قل : فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين . فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون ) .

لقد كان اليهود يتصيدون كل حجة ، وكل شبهة ، وكل حيلة ، لينفذوا منها إلى الطعن في صحة الرسالة المحمدية ، وإلى بلبلة الأفكار وإشاعة الاضطراب في العقول والقلوب . . فلما قال القرآن : إنه مصدق لما في التوراة برزوا يقولون : فما بال القرآن يحلل من الأطعمة ما حرم على بني إسرائيل ؟ وتذكر الروايات أنهم ذكروا بالذات لحوم الإبل وألبانها . . وهي محرمة على بني إسرائيل . وهناك محرمات أخرى كذلك أحلها الله للمسلمين .

وهنا يردهم القرآن إلى الحقيقة التاريخية التي يتجاهلونها للتشكيك في صحة ما جاء في القرآن من أنه مصدق للتوراة ، وأنه مع هذا أحل للمسلمين بعض ما كان محرما على بني إسرائيل . . هذه الحقيقة هي أن كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل - إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة - وإسرائيل هو يعقوب - عليه السلام - وتقول الروايات إنه مرض مرضا شديدا ، فنذر لله لئن عافاه ليمتنعن - تطوعا - عن لحوم الإبل وألبانها وكانت أحب شيء إلى نفسه . فقبل الله منه نذره . وجرت سنة بني إسرائيل على اتباع أبيهم في تحريم ما حرم . . كذلك حرم الله على بني إسرائيل مطاعم أخرى عقوبة لهم على معصيات ارتكبوها . وأشير إلى هذه المحرمات في آية " الأنعام " : ( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ، ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ، ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون ) . .

وكانت قبل هذا التحريم حلالا لبني إسرائيل .

يردهم الله سبحانه إلى هذه الحقيقة ، ليبين أن الأصل في هذه المطاعم هو الحل ، وأنها إنما حرمت عليهم لملابسات خاصة بهم . فإذا أحلها للمسلمين فهذا هو الأصل الذي لا يثير الاعتراض ، ولا الشك في صحة هذا القرآن ، وهذه الشريعة الإلهية الأخيرة .

ويتحداهم أن يرجعوا إلى التوراة ، وأن يأتوا بها ليقرأوها ، وسيجدون فيها أن أسباب التحريم خاصة بهم ، وليست عامة .

( قل : فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ) . .

وهذا الوعد الصادق لهم أنهم لن يبخسوا حقا ، ولن يكفروا أجرا . مع الإشارة إلى أن الله - سبحانه - علم أنهم من المتقين . .

وهي صورة ترفع أمام الراغبين في هذه الشهادة ، وفي هذا الوعد ، ليحققها في ذات نفسه كل من يشتاق إلى نورها الوضيء في أفقها المنير .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَمَا يَفۡعَلُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَلَن يُكۡفَرُوهُۗ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِٱلۡمُتَّقِينَ} (115)

أي : لا يضيع عند الله بل يجزيكم به أوفر الجزاء . { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ } أي : لا يخفى عليه عمل عامل ، ولا يضيع لديه أجر من أحسن عملا .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَمَا يَفۡعَلُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَلَن يُكۡفَرُوهُۗ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِٱلۡمُتَّقِينَ} (115)

قرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر < تفعلوا >و بالتاء على مخاطبة هذه الأمة ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بالياء فيهما ، على مشابهة ما تقدم من «يتلون ويؤمنون » وما بعدهما ، وكان أبو عمرو يقرأ بالوجهين ، و { تكفروه } معناه : يعطى دونكم فلا تثابون عليه ، ومن هذا القول النبي صلى الله عليه وسلم : من أزلت إليه نعمة فليذكرها فإن ذكرها فقد شكرها ، فإن لم يفعل فقد كفرها{[3444]} ، ومنه قول الشاعر{[3445]} : [ عنترة ] : [ الكامل ] .

( والْكُفْرُ مَخبَثَةٌ لِنَفْسِ الْمُنْعِمِ ) . . . وفي قوله تعالى : { والله عليم بالمتقين } وعد ووعيد .


[3444]:- أخرجه الطبراني، عن طلحة بن عبيد الله بلفظ: (من أولي معروفا فليذكره، فمن ذكره فقد شكره، ومن كتمه فقد كفره). "مجمع الزوائد 8/181" ومعنى أزلت: أسديت.
[3445]:- هو عنترة بن شداد العبسي، والبيت كاملا هو: نبئت عمرا غير شاكر نعمتي والكفر مخبثة لنفس المنعم التنبئة: مثل الإنباء. والمخبثة: المفسدة. يقول: أعلمت أن عمرا لا يشكر نعمتي، وكفران النعمة ينفر نفس المنعم عن الإنعام.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَمَا يَفۡعَلُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَلَن يُكۡفَرُوهُۗ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِٱلۡمُتَّقِينَ} (115)

تذييل للجمل المفتتحة بقوله تعالى : { من أهل الكتاب أمَّة قائمة } [ آل عمران : 113 ] إلى قوله { من الصالحين } [ آل عمران : 114 ] وقرأ الجمهور : تفعلوا بالفوقية فهو وعد للحاضرين ، ويعلم منه أنّ الصّالحين السَّابقين مثلهم ، بقرينة مقام الامتنان ، ووقوعه عقب ذكرهم ، فكأنَّه قيل : وما تفعلوا من خير ويَفعلوا . ويجوز أن يكون إلتفاتاً لخطاب أهل الكتاب . وقرأه حمزة ، والكسائي ، وحفص ، وخلف بياء الغيبة عائداً إلى أمّة قائمة .

والكفر : ضد الشكر أي هو إنكار وصول النَّعمة الواصلة . قال عنترة :

نبئْتُ عَمْرا غيرَ شاكر نعمتي *** والكفْرُ مَخْبَثَة لِنَفْسِ المنعم

وقال تعالى { واشكروا لي ولا تكفرون } وأصل الشكر والكفر أن يتعديا إلى واحد ، ويكون مفعولهما النّعمة كما في البيت . وقد يجعل مفعولهما المنعم على التوسّع في حذف حرف الجرّ ، لأن الأصل شكرت له وكفرت له . قال النابغة :

* شكرتُ لك النعمي *

وقد جمع بين الاستعمالين قوله تعالى { واشكروا لي ولا تكفرون } [ البقرة : 152 ] وقد عدّي { تُكْفَروه } هنا إلى مفعولين : أحدهما نائب الفاعل ، لأن الفعل ضمّن معنى الحرمان . والضّمير المنصوب عائد إلى خير بتأويل خير بجزاء فعل الخير على طريقة الاستخدام وأطلق الكفر هنا على ترك جزاء فعل الخير ، تشبيهاً لفعل الخير بالنَّعمة . كأنّ فاعل الخير أنعم على الله تعالى بنعمته مثل قوله { إن تُقرضوا الله قرضاً حسناً } [ التغابن : 17 ] فحذف المشبّه ورمز إليه بما هو من لوازم العرفية . وهو الكفر ، على أنّ في القرينة استعارة مصرّحة مثل { ينقضون عهدَ الله } [ البقرة : 27 ] . وقد أمتنّ الله علينا إذ جعل طاعتنا إيّاه كنعمة عليه تعالى ، وجعل ثوابها شُكراً ، وتَرْك ثوابها كفراً فنفاه . وسمّى نفسه الشكور .

وقد عدّي الكفر أن هنا إلى النعمة على أصل تعديته .