في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَوۡمَئِذٖ تُعۡرَضُونَ لَا تَخۡفَىٰ مِنكُمۡ خَافِيَةٞ} (18)

13

( يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية ) . .

فالكل مكشوف . مكشوف الجسد ، مكشوف النفس ، مكشوف الضمير ، مكشوف العمل ، مكشوف المصير . وتسقط جميع الأستار التي كانت تحجب الأسرار ، وتتعرى النفوس تعري الأجساد ، وتبرز الغيوب بروز الشهود . . ويتجرد الإنسان من حيطته ومن مكره ومن تدبيره ومن شعوره ، ويفتضح منه ما كان حريصا على أن يستره حتى عن نفسه ! وما أقسى الفضيحة على الملأ . وما أخزاها على عيون الجموع ! أما عين الله فكل خافية مكشوفة لها في كل آن . ولكن لعل الإنسان لا يشعر بهذا حق الشعور ، وهو مخدوع بستور الأرض . فها هو ذا يشعر به كاملا وهو مجرد في يوم القيامة . وكل شيء بارز في الكون كله . الأرض مدكوكة مسواة لا تحجب شيئا وراء نتوء ولا بروز . والسماء متشققة واهية لا تحجب وراءها شيئا ، والأجسام معراة لا يسترها شيء ، والنفوس كذلك مكشوفة ليس من دونها ستر وليس فيها سر !

ألا إنه لأمر عصيب . أعصب من دك الأرض والجبال ، وأشد من تشقق السماء ! وقوف الإنسان عريان الجسد ، عريان النفس ، عريان المشاعر ، عريان التاريخ ، عريان العمل ما ظهر منه وما استتر . أمام تلك الحشود الهائلة من خلق الله ، من الإنس والجن والملائكة ، وتحت جلال الله وعرشه المرفوع فوق الجميع . .

وأن طبيعة الإنسان لمعقدة شديدة التعقيد ؛ ففي نفسه منحنيات شتى ودروب ، تتخفى فيها نفسه وتتدسس بمشاعرها ونزواتها وهفواتها وخواطرها وأسرارها وخصوصياتها . وإن الإنسان ليصنع أشد مما تصنعه القوقعة الرخوة الهلامية حين تتعرض لوخزة إبرة ، فتنطوي سريعا ، وتنكمش داخل القوقعة ، وتغلق على نفسها تماما . إن الإنسان ليصنع أشد من هذا حين يحس أن عينا تدسست عليه فكشفت منه شيئا مما يخفيه ، وأن لمحة أصابت منه دربا خفيا أو منحنى سريا ! ويشعر بقدر عنيف من الألم الواخز حين يطلع عليه أحد في خلوة من خلواته الشعورية . .

فكيف بهذا المخلوق وهو عريان . عريان حقا . عريان الجسد والقلب والشعور والنية والضمير . عريان من كل ساتر . عريان . . . كيف به وهو كذلك تحت عرش الجبار ، وأمام الحشد الزاخر بلا ستار ? !

ألا إنه لأمر ، أمر من كل أمر ! ! !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَوۡمَئِذٖ تُعۡرَضُونَ لَا تَخۡفَىٰ مِنكُمۡ خَافِيَةٞ} (18)

وقوله :{[29282]} أي تعرضون على عالم السر والنجوى الذي لا يخفى عليه شيء من أموركم ، بل هو عالم بالظواهر والسرائر والضمائر ؛ ولهذا قال : { لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ }

وقد قال ابن أبي الدنيا : أخبرنا إسحاق بن إسماعيل ، أخبرنا سفيان بن عيينة ، عن جعفر بن بُرْقان ، عن ثابت بن الحجاج قال : قال عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أنفسكم قبل أن تُوزَنوا ، فإنه أخف عليكم في الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم ، وَتَزَيَّنُوا للعرض الأكبر : { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ } {[29283]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا علي بن علي بن رفاعة ، عن الحسن ، عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات ، فأما عرضتان فجدالٌ ومعاذيرُ ، وأما الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي ، فآخذ بيمينه وآخذ بشماله " .

ورواه ابن ماجة ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن وَكِيع ، به{[29284]} وقد رواه الترمذي عن أبي كُرَيْب عن وكيع عن علي بن علي ، عن الحسن ، عن أبي هريرة ، به{[29285]} .

وقد روى ابنُ جرير عن مجاهد بن موسى ، عن يزيد ، بن سليم بن حيان ، عن مروان الأصغر ، عن أبي وائل ، عن عبد الله قال : يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات : عرضتان ، معاذير وخصومات ، والعرضة الثالثة تطير الصحف في الأيدي . ورواه سعيد بن أبي عَروبة ، عن قتادة مرسلا مثله{[29286]} .


[29282]:- (7) يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية
[29283]:- (1) محاسبة النفس لابن أبي الدنيا برقم 2 وذكره المؤلف في مسند عمر (2/618) وقال: "أثر مشهور وفيه انقطاع، وثابت بن الحجاج هذا جزري تابعي صغير لم يدرك، ولم يرو عنه سوى جعفر بن برقان، وله عند أبي داود في السنن حديثان".
[29284]:- (2) المسند (14/414) وسنن ابن ماجة برقم (4277) وقال البوصيري في الزوائد (3/315): "هذا إسناد رجاله ثقات إلا أنه منقطع، الحسن لم يسمح من أبي موسي. قاله علي بن المديني وأبو حاتم وأبو زرعة".
[29285]:- (3) سنن الترمذي برقم (2425).
[29286]:- (4) تفسير الطبري (29/38).
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَوۡمَئِذٖ تُعۡرَضُونَ لَا تَخۡفَىٰ مِنكُمۡ خَافِيَةٞ} (18)

الخطاب في قوله تعالى : { تعرضون } لجميع العالم ، وروي عن أبي موسى الأشعري وابن مسعود أن في القيامة عرضتين فيهما معاذير وتوقيف وخصومات وجدال ، ثم تكون عرضة ثالثة تتطاير فيها الصحف بالأيمان والشمائل . وقرأ حمزة والكسائي : «لا يخفى » ، بالياء وهي قراءة علي بن أبي طالب وابن وثاب وطلحة والأعمش وعيسى ، وقرأ الباقون : بالتاء على مراعاة تأنيث { خافية } وهي قراءة الجمهور ، وقوله تعالى : { خافية } معناه ضمير ولا معتقد .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَوۡمَئِذٖ تُعۡرَضُونَ لَا تَخۡفَىٰ مِنكُمۡ خَافِيَةٞ} (18)

وجملة { يومئذٍ تعرضون } مستأنفة ، أو هي بيان لجملة { فيومئذٍ وقعت الواقعة ، } أو بدل اشتمال منها .

و { منكم } صفة ل { خافية } قدمت عليه فتكون حالاً .

وتكرير { يومئذٍ } أربعَ مرات لتهويل ذلك اليوم الذي مبدؤه النفخ في الصور ثم يعقبه ما بعده مما ذكر في الجُمل بعده ، فقد جرى ذكر ذلك اليوم خمس مرات لأن { فيومئذٍ وقَعَتْ الواقعة } تكرير ل ( إذا ) من قوله : { فإذا نفخ في الصور } إذ تقدير المضاف إليه في { يومئذٍ } هو مدلول جملة { فإذا نفخ في الصور ، } فقد ذكر زمان النفخ أولاً وتكرر ذكره بعد ذلك أربع مرات .

وقرأ الجمهور { لا تخفى } بمثناة فوقية . وقرأه حمزة والكسائي وخلف بالتحتية لأن تأنيث { خافية } غير حقيقي ، مع وقوع الفصل بين الفعل وفاعله .