اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَوۡمَئِذٖ تُعۡرَضُونَ لَا تَخۡفَىٰ مِنكُمۡ خَافِيَةٞ} (18)

قال ابنُ الخطيب{[57783]} : قالت المشبِّهةُ : لو لم يكن اللَّهُ في العرشِ لكان حملُ العرش عبثاً لا فائدة فيه ، لا سيما قد أكَّد ذلك بقوله : { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ } ، والعرش إنَّما يكونُ لو كان الإلهُ حاضراً في العرش .

وأجاب : بأنه لا يمكن أن يكون المراد أنَّ الله - تعالى - جالس في العرش ؛ لأن كل من كان حاملاً للعرش ؛ كان حاملاً لكل ما كان في العرش فلو كان الإلهُ على العرش لزم أن يكون الملائكة حاملين لله تعالى ، وذلك محالٌ ؛ لأنه يقتضي احتياج الله إليهم ، وأن يكونوا أعظم قدراً من الله ، وكل ذلك كفرٌ ، فعلمنا أنه لا بد فيه من التأويل ، فنقول : السببُ في هذا الكلام هو أنه - تعالى - خاطبهم بما يتعارفونه ، فخلق لنفسه بيتاً يزورونه ليس أنه يسكنه - تعالى الله عن ذلك - وجعل في ركن البيت حجراً ، هو يمينه في الأرض إذْ كان من شأنهم أن يعظموا رؤساءهم بتقبيل أيمانهم ، وجعل على العبادِ حفظةً لا لأن النسيان يجوزُ عليه سبحانه ، وكذلك أنَّ الملك إذا أراد محاسبة عماله جلس على سريره ، ووقفت الأعوانُ حوله ، فسمى الله يوم القيامة عرشاً ، وحفَّت به الملائكة لا لأنه يقعد عليه ، أو يحتاجُ إليه ، بل كما قلنا في البيت والطَّواف .

قوله : { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ } هو جواب «إذَا » من قوله : «فَإذَا نُفِخَ » . قاله أبو حيَّان{[57784]} .

وفيه نظرٌ ، بل جوابها ما تقدم من قوله : «وقَعَتِ الواقِعَةُ » و «تُعْرضُونَ » على هذا مستأنفة .

قوله : { لاَ تخفى } .

قرأ الأخوان{[57785]} : بالياء من تحت ؛ لأن التأنيث مجازي ، كقوله : { وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة }[ هود : 67 ] .

واختاره أبو عبيد ؛ لأنه قد حال بين الفعل والاسم المؤنث الجار والمجرور .

والأخوان : على أصلهما في إمالة الألف .

وقرأ الباقون : «لا تَخْفَى » بالتاء من فوق للتأنيث اللفظي والفتح وهو الأصل ، واختاره أبو حاتم .

فصل في العرض على الله

قال القرطبيُّ{[57786]} : هذا هو العرضُ على الله ، ودليله : { وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفَّاً }[ الكهف : 48 ] وليس ذلك عرضاً ليعلم ما لم يكن عالماً ، بل ذلك العرضُ عبارةٌ عن المحاسبة والمساءلة وتقدير الأعمال عليهم للمجازاة .

قال صلى الله عليه وسلم : «يُعْرَضُ النَّاسُ يوم القِيامةِ ثلاثَ عَرضَاتٍ ، فأما عَرْضتانِ فَجِدالٌ ، ومعَاذِيرٌ وأما الثَّالثةُ فعند ذلك تَطِيْرُ الصُّحُفُ في الأيْدِي فآخِذٌ بيَمِينِهِ وآخِذٌ بِشمالهِ »{[57787]} .

وقوله : { لاَ تخفى مِنكُمْ خَافِيَةٌ } .

قال ابن شجرة : أي : هو عالم بكل شيء من أعمالكم ، ف «خَافِيَة » على هذا بمعنى «خفيَّة » كانوا يخفونها من أعمالهم ، ونظيره قوله تعالى : { لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْءٌ }[ غافر : 16 ] .

قال ابن الخطيب{[57788]} : فيكون الغرضُ المبالغة في التهديدِ ، يعني : «تُعرَضُون على من لا يخفى عليه شيء » .

وقيل : لا يخفى عليه إنسان لا يحاسب .

وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : لا يَخْفَى المُؤمِنُ من الكافر ، ولا البَرُّ من الفاجرِ .

وقيل : لا يتسر منكم عورة ، لقوله عليه الصلاة والسلام : «يُحْشرُ النَّاسُ حُفاةً عُراةً » .


[57783]:ينظر: الفخر الرازي 30/96.
[57784]:البحر المحيط 8/324.
[57785]:ينظر: السبعة 648، والحجة 6/135، وإعراب القراءات 2/386، وحجة القراءات 718.
[57786]:ينظر: الجامع لأحكام القرآن 18/174.
[57787]:أخرجه أحمد (4/414) وابن ماجه (2/1430) من طريق الحسن عن أبي موسى. قال البوصيري في "الزوائد" (3/135): هذا إسناد رجاله ثقات إلا أنه منقطع الحسن لم يسمع من أبي موسى قاله علي بن المديني وأبو حاتم وأبو زرعة. ورواه أبو بكر بن أبي شيبة في "مسنده" بإسناده ومتنه. وللحديث شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه الترمذي (2425) من طريق الحسن عنه. وقال الترمذي: ولا يصح هذا الحديث من قبل أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة وقد رواه بعضهم عن علي الرفاعي عن الحسن عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال: ولا يصح هذا الحديث من قبل أن الحسن لم يسمع من أبي موسى. ولتفصيل سماع الحسن من أبي هريرة وأبي موسى ينظر "جامع التحصيل" (ص162-164) للحافظ العلائي.
[57788]:ينظر الفخر الرازي 30/97.