ويعرض كذلك مشهد الليل والنهار وتعاقبهما . وهما آيتان مكرورتان ينساهما الناس ، وفيهما الكفاية : ( لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ) . ولولا أن جعلهما كذلك يتعاوران الناس ، ويخلف أحدهما أخاه ، ما أمكنت الحياة على ظهر هذا الكوكب لإنسان ولا لحيوان ولا لنبات . بل لو أن طولهما تغير لتعذرت كذلك الحياة .
جاء في كتاب : " الإنسان لا يقوم وحده " [ العلم يدعو إلى الإيمان ] .
" تدور الكرة الأرضية حول محورها مرة في كل أربع وعشرين ساعة ، أو بمعدل نحو ألف ميل في الساعة . والآن افرض أنها تدور بمعدل مائة فقط في الساعة . ولم لا ? عندئذ يكون ليلنا ونهارنا أطول مما هما الآن عشر مرات . و في هذه الحالة قد تحرق شمس الصيف الحارة نباتاتنا في كل نهار . وفي الليل يتجمد كل نبت في الأرض !
. فتبارك الذي خلق السماوات والأرض ، وخلق كل شيء فقدره تقديرا . وتبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا . ( وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا . .
ثم قال : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً } أي : يخلف كل واحد منهما الآخر ، يتعاقبان لا يفتران . إذا ذهب هذا جاء هذا ، وإذا جاء هذا ذهب ذاك{[21573]} ، كما قال : { وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ } [ إبراهيم : 33 ] ، وقال { يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ } [ الأعراف : 54 ]وقال : { لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس : 40 ] .
وقوله : { لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا } {[21574]} أي : جعلهما يتعاقبان ، توقيتا لعبادة عباده له ، فمن فاته عمل في الليل استدركه في النهار ، ومن فاته عمل في النهار استدركه في الليل . وقد جاء في الحديث الصحيح : " إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل " {[21575]} .
قال أبو داود الطيالسي : حدثنا أبو حُرّة{[21576]}عن الحسن : أن عمر بن الخطاب أطال صلاة الضحى ، فقيل له : صنعت اليوم شيئا لم تكن تصنعه ؟ فقال : إنه بقي علي من وردي شيء ، فأحببت أن أتمه - أو قال : أقضيه - وتلا هذه الآية : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً [ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ] } {[21577]}-{[21578]} .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس [ قوله : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً } {[21579]} ] يقول : من فاته شيء من الليل أن يعمله ، أدركه بالنهار ، أو من النهار أدركه بالليل . وكذا قال عكرمة ، وسعيد بن جبير . والحسن .
وقال مجاهد ، وقتادة : { خِلْفَة } أي : مختلفين ، هذا بسواده ، وهذا بضيائه .
{ وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة } أي ذوي خلفة يخلف كل منهما الآخر بأن يقوم مقامه فيما ينبغي أن يعمل فيه ، أو بأن يعتقبا لقوله تعالى : { واختلاف الليل والنهار } . وهي للحالة من خلف كالركبة والجلسة . { لمن أراد أن يذكر } بأن يتذكر آلاء الله ويتفكر في صنعه فيعلم أن لا بد له من صانع حكيم واجب الذات رحيم على العباد . { أوأراد شكورا } أن يشكر الله تعالى على ما فيه من النعم ، أو ليكونا وقتين للمتذكرين والشاكرين من وفاته ورده في أحدهما تداركه في الآخرة ، وقرأ حمزة { أن يذكر } من ذكر بمعنى تذكر وكذلك ليذكروا وافقه الكسائي فيه .
وقوله { خلفة } أي هذا يخلف هذا ، وهذا يخلف هذا ، ومن هذا المعنى قول زهير : [ الطويل ]
بها العين والأرآم يمشين خلفة . . . وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم{[8869]}
ومن هذا قول الآخر يصف امرأة تنتقل من منزل في الشتاء إلى منزل في الصيف دأباً [ يزيد بن معاوية ] : [ المديد ]
ولها بالماطرون إذا . . . أكل النمل الذي جمعا
خلفة حتى إذا ارتبعت . . . سكنت من جلق بيعا
في بيوت وسط دسكرة . . . حولها الزيتون قد ينعا{[8870]}
وقال مجاهد { خلفة } من الخلاف ، هذا أبيض وهذا أسود ، وما قدمناه أقوى ، وقال مجاهد وغيره من النظار { لمن أراد أن يذكر } أي يعتبر بالمصنوعات ويشكر الله على نعمه عليه في العقل والفهم والفكر ، وقال عمرو بن الخطاب والحسن وابن عباس معناه { لمن أراد أن يذكر } ما فاته من الخير والصلاة ونحوه في أحدهما فيستدركه في الذي يليه ، وقرأ حمزة وحده{[8871]} «يذْكُر » بسكون الذال وضم الكاف ، وهي قراءة ابن وثاب وطلحة والنخعي ، وقرأ الباقون «يذّكر » بشد الذال ، وفي مصحف أبي بن كعب «يتذكر » بزيادة تاء ، ثم قال تعالى { لمن أرد أن يذكر أو أراد شكوراً } جاء بصفة عباده الذين هم أهل التذكر والشكور .
الاستدلال هذا بما في الليل والنّهار من اختلاف الحال بين ظلمة ونور ، وبرد وحر ، مما يكون بعضه أليق ببعض الناس من بعض ببعض آخر ، وهذا مخالف للاستدلال الذي في قوله { وهو الذي جعل لكم الليل لباساً والنوم سباتاً وجعل النهار نشوراً } [ الفرقان : 47 ] ، فهذه دلالة أخرى ونعمة أخرى والحِكَم في المخلوقات كثيرة .
والقصر هنا قصر حقيقي وليس إضافياً فلذلك لا يراد به الرد على المشركين بخلاف صيغ القصر السابقة من قوله { وهو الذي جعل لكم الليل لباساً إلى قوله وكان ربك قديراً } [ الفرقان : 47 54 ] .
والخِلفة بكسر الخاء وسكون اللام : اسم لما يَخلف غيره في بعض ما يصلح له . صيغ هذا الاسم على زنة فِعْلة لأنه في الأصل ذو خلفة ، أي صاحب حالة خلف فيها غيره ثم شاع استعماله فصار اسماً ، قال زهير :
بها العين والآرام يَمشِينَ خِلفَةً *** وأطلاؤها ينهَضْن من كل مُجْثَم
أي يمشي سرب ويخلفه سرب آخر ثم يتعاقب هكذا . فالمعنى : جعل الليل خلفة والنهارَ خلفة : أي كلَّ واحد منهما خِلفة عن الآخر ، أي فيما يعمل فيها من التدبر في أدلة العقيدة والتعبد والتذكر .
واللام في { لمن أراد أن يذكر } لام التعليل وهي متعلقة ب { جعل } ، فأفاد ذلك أن هذا الجعل نافع من أراد أن يذّكر أو أراد شُكوراً .
والتذكر : تفعّل من الذِكر ، أي تكلف الذكر . والذكر جاء في القرآن بمعنى التأمل في أدلة الدين ، وجاء بمعنى : تذكر فائت أو منسي ، ويجمع المعنيين استظهار ما احتجب عن الفكر .
والشكور : بضم الشين مصدر مرادف الشكر ، والشكر : عرفانُ إحسان المحسن . والمراد به هنا العبادة لأنها شكر لله تعالى .
فتفيد الآية معنى : لينظرَ في اختلافهما المتفكر فيعلم أن لا بدّ لانتقالهما من حال إلى حال مؤثر حكيم فيستدل بذلك على توحيد الخالق ويعلم أنه عظيم القدرة فيوقن بأنه لا يستحق غيره الإلهية ، وليشكر الشاكر على ما في اختلاف الليل والنهار من نعم عظيمة منها ما ذكر في قوله تعالى : { وهو الذي جعل لكم الليل لباساً والنوم سباتاً وجعل النهار نشوراً } [ الفرقان : 47 ] فيكثر الشاكرون على اختلاف أحوالهم ومناسباتهم ، وتفيد معنى : ليتداركَ الناسِي ما فاته في الليل بسبب غلبة النوم أو التعب فيقضيَه في النهار أو ما شغله عنه شواغل العمل في النهار فيقضيه بالليل عند التفرغ فلا يرزؤه ذلك ثواب أعماله . روي أن عمر بن الخطاب أطال صلاة الضحى يوماً فقيل له : صنعت شيئاً لم تكن تصنعه ؟ فقال : إنه بَقي عليَّ من وردي شيء فأحببت أن أقضيه وتلا قوله تعالى : { وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة } الآية . ولمن أراد أن يتقرب إلى الله شكراً له بصلاة أو صيام فيكون الليل أسعد ببعض ذلك والنهار أسعد ببعض ، فهذا مفاد عظيم في إيجاز بديع .
وجيء في جانب المتذكرين بقوله { أن يذكر } لدلالة المضارع على التجدد . واقتصر في جانب الشاكرين على المصدر بقوله { أو أراد شكوراً } لأن الشكر يحصل دفعة . ولأجل الاختلاف بين النظمين أعيد فعل { أراد } إذ لا يلتئم عطف { شكوراً } على { أن يذكر } .
وقرأ الجمهور { أن يذَّكر } بتشديد الذال مفتوحة ، وأصله : يتذكر فأدغمت التاء في الذال لتقاربهما . وقرأ حمزة وخلف { أن يَذْكُر } بسكون الذال وضم الكاف وهو بمعنى المشدّد إلاّ أن المشدّد أشدّ عملاً ، وكِلا العملين يستدركان في الليل والنهار .