ولما كانت الأمة المسلمة - المسلمة حقا لا جغرافية ولا تاريخا ! - هي الأمة المدركة لحقيقة العهد بين الله ورسله . وحقيقة دين الله الواحد ومنهجه ، وحقيقة الموكب السني الكريم الذي حمل هذا المنهج وبلغه ، فإن الله يأمر نبيه [ ص ] أن يعلن هذه الحقيقة كلها ؛ ويعلن إيمان أمته بجميع الرسالات ، واحترامها لجميع الرسل ، ومعرفتها بطبيعة دين الله ، الذي لا يقبل الله من الناس سواه :
( قل : آمنا بالله ، وما أنزل علينا ، وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل ، وإسحاق ويعقوب والأسباط ، وما أوتي موسى وعيسى ، والنبيون من ربهم . لا نفرق بين أحد منهم . ونحن له مسلمون . ومن يبتغ غير الإسلامدينا فلن يقبل منه ، وهو في الآخرة من الخاسرين ) . .
هذا هو الإسلام في سعته وشموله لكل الرسالات قبله ، وفي ولائه لكافة الرسل حملته . وفي توحيده لدين الله كله ، ورجعه جميع الدعوات وجميع الرسالات إلى أصلها الواحد ، والإيمان بها جملة كما أرادها الله لعباده .
ومما هو جدير بالالتفات في الآية القرآنية الأولى هنا هو ذكرها الإيمان بالله وما أنزل على المسلمين - وهو القرآن - وما أنزل على سائر الرسل من قبل ، ثم التعقيب على هذا الإيمان بقوله :
فهذا الإقرار بالإسلام له مغزاه . بعد بيان أن الإسلام هو الاستسلام والخضوع والطاعة واتباع الأمر والنظام والمنهج والناموس . كما يتجلى في الآية قبلها( أفغير دين الله يبغون ، وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون ) . . فظاهر أن إسلام الكائنات الكونية هو إسلام الخضوع للأمر ، واتباع النظام ، وطاعة الناموس . . ومن ثم تتجلى عناية الله - سبحانه - ببيان معنى الإسلام وحقيقته في كل مناسبة . كي لا يتسرب إلى ذهن أحد أنه كلمة تقال باللسان ، أو تصديق يستقر في القلب ، ثم لا تتبعه آثاره العملية من الاستسلام لمنهج الله ، وتحقيق هذا المنهج في واقع الحياة .
ثم قال تعالى : { قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ عَلَيْنَا } يعني : القرآن { وَمَا أُنزلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } أي : من الصحف والوحي : { وَالأسْبَاطِ } وهم بطون بني إسرائيل المتشعبة من أولاد إسرائيل - هو يعقوب - الاثني عشر . { وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى } يعني : بذلك التوراة والإنجيل { وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ } وهذا يَعُم جميعَ الأنبياء جملة { لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ } يعني : بل نؤمن بجميعهم { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } فالمؤمنون من هذه الأمة يؤمنون بكل نبي أرسل ، وبكل كتاب أنزل ، لا يكفرون بشيء من ذلك بل هم مُصَدِّقون{[5277]} بما أنزل من عند الله ، وبكل نبي بعثه الله .
{ قُلْ آمَنّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ عَلَىَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنّبِيّونَ مِن رّبّهِمْ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : أفغير دين الله تبغون يا معشر اليهود ، وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها ، وإليه ترجعون ، فإن ابتغوا غير دين الله يا محمد ، فقل لهم : آمنا بالله . فترك ذكر قوله : «فإن قالوا نعم » ، وذكر قوله : «فإن ابتغوا غير دين الله » ، لدلالة ما ظهر من الكلام عليه .
وقوله : { قُلْ آمَنّا بِاللّهِ } يعني به : قل لهم يا محمد : صدّقنا بالله أنه ربنا وإلَهنا ، لا إلَه غيره ، ولا نعبد أحدا سواه¹ { وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا } يقول : وقل : وصدّقنا أيضا بما أنزل علينا من وحيه وتنزيله ، فأقررنا به¹ { وَمَا أُنْزِلَ على إِبْرَاهِيمَ } يقول : وصدقنا أيضا بما أنزل على إبراهيم خليل الله¹ { و }على ابنيه { إِسْماعيل وَإِسْحاقَ } وابن ابنه { يَعْقُوبَ } وبما أنزل على الأسباط ، وهم ولد يعقوب الاثنا عشر ، وقد بينا أسماءهم بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . { وَما أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى } يقول : وصدقنا أيضا مع ذلك بالذي أنزل الله على موسى وعيسى من الكتب والوحي ، وبما أنزل على النبيين من عنده . والذي آتى الله موسى وعيسى ، مما أمر الله عزّ وجلّ محمدا بتصديقهما فيه والإيمان به التوراة التي آتاها موسى ، والإنجيل الذي أتاه عيسى . { لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنْهُمْ } يقول : لا نصدّق بعضهم ونكذّب بعضهم ، ولا نؤمن ببعضهم ونكفر ببعضهم ، كما كفرت اليهود والنصارى ببعض أنبياء الله ، وصدّقت بعضا ، ولكنا نؤمن بجميعهم ، ونصدّقهم . { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } يعني : ونحن ندين لله بالإسلام ، لا ندين غيره ، بل نتبرأ إليه من كل دين سواه ، ومن كل ملة غيره . ويعني بقوله : { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } : ونحن له منقادون بالطاعة ، متذللون بالعبودية ، مقرّون له بالألوهة والربوبية ، وأنه لا إلَه غيره . وقد ذكرنا الرواية بمعنى ما قلنا في ذلك فيما مضى ، وكرهنا إعادته .
{ قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم } أمر للرسول صلى الله عليه وسلم بأن يخبر عن نفسه ومتابعيه بالإيمان ، والقرآن كما هو منزل عليه بتوسط تبليغه إليهم وأيضا المنسوب إلى واحد من الجمع قد ينسب إليهم ، أو بأن يتكلم عن نفسه على طريقة الملوك إجلالا له ، والنزول كما يعدى بإلى لأنه ينتهي إلى الرسل يعدى بعلى لأنه من فوق ، وإنما قدم المنزل صلى الله عليه وسلم على المنزل على سائر الرسل لأنه المعرف له والعيار عليه { لا نفرق بين أحد منهم } بالتصديق والتكذيب . { ونحن له مسلمون } منقادون أو مخلصون في عبادته .
المخاطب بفعل قل هو النبي صلى الله عليه وسلم ليقول ذلك بمسمع من الناس : مسلمهم ، وكافرهم ، ولذلك جاء في هذه الآية قوله : { وما أنزل علينا } أي أنزل عليّ لتبليغكم فجعل إنزاله على الرسول والأمة لاشتراكهم في وجوب العمل بما أنزل ، وعدّى فعل ( أنزل ) هنا بحرف ( على ) باعتبار أنّ الإنزال يقتضي علوّاً فوصول الشيء المنزَل وصول استعلاء وعدّي في آية سورة البقرة بحرف ( إلى ) باعتبار أنّ الإنزال يتضمن الوصول وهو يتعدّى بحرف ( إلى ) . والجملة اعتراض . واستئناف : لتلقين النبي عليه السلام والمسلمين كلاماً جامعاً لمعنى الإسلام ليدوموا عليه ، ويعلن به للأمم ، نشأ عن قوله : { أفغير دين الله يبغون } [ آل عمران : 83 ] .
ومعنى : { لا نفرق بين أحد منهم } أننا لا نعادي الأنبياء ، ولا يحملنا حبّ نبيئنا على كراهتهم ، وهذا تعريض باليهود والنصارى ، وحذف المعطوف وتقديره لا نفرق بين أحد وآخر ، وتقدم نظير هذه الآية في سورة البقرة . وهذه الآية شعار الإسلام وقد قال الله تعالى : { وتؤمنون بالكتاب كله } [ آل عمران : 119 ] .