ثم يسارع السياق إلى رخاء النعيم :
( إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا . عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا ) . .
وهذه العبارة تفيد أن شراب الأبرار في الجنة ممزوج بالكافور ، يشربونه في كأس تغترف من عين تفجر لهم تفجيرا ، في كثرة ووفرة . . وقد كان العرب يمزجون كؤوس الخمر بالكافور حينا وبالزنجبيل حينا زيادة في التلذذ بها ، فهاهم أولاء يعلمون أن في الجنة شرابا طهورا ممزوجا بالكافور ، على وفر وسعة . فأما مستوى هذا الشراب فمفهوم أنه أحلى من شراب الدنيا ، وأن لذة الشعور به تتضاعف وترقى ، ونحن لا نملك في هذه الأرض أن نحدد مستوى ولا نوعا للذة المتاع هناك . فهي أوصاف للتقريب . يعلم الله أن الناس لا يملكون سواها لتصور هذا الغيب المحجوب .
والتعبير يسميهم في الآية الأولى( الأبرار )ويسميهم في الآية الثانية ( عباد الله ) . . إيناسا وتكريما وإعلانا للفضل تارة ، وللقرب من الله تارة ، في معرض النعيم والتكريم .
{ إن الأبرار } بيان لجزاء الشاكرين إثر بيان جزاء الكافرين . والأبرار : جمع بر ، أو بار . والبر : المطيع المتوسع في فعل الخير . وقد ذكر الله من أوصافهم التي استحقوا بها هذه الكرامة : أنهم يوفون بالنذر ، ويخافون الآخرة ، ويواسون المساكين واليتامى والأسرى . وبين جزاءهم في الآيات التالية التي آخرها آية 22{ يشربون من كأس } أي من خمر . أو من إناء فيه خمر . وإطلاق الكأس على الثاني حقيقة ، وعلى الأول مجاز وهو المراد هنا ؛ لقوله تعالى : { كان مزاجها كافورا } والكافور : لا يمزج بالإناء ، وإنما يمزج بالخمر التي فيه . والمزاج : ما يمزج به . والكافور : طيب معروف فيه بياض وبرودة ، وله رائحة طيبة . والمراد : كان شوبها ماء يشبه الكافور في أوصافه . أو أنه تعالى جعل في خمر الجنة الأوصاف المحمودة في الكافور . وعبر عن ذلك بالمزاج على سبيل التجوز . وعن ابن عباس : كل ما ذكر في القرآن مما في الجنة وسماه ليس له من الدنيا شبيه إلا في الاسم . فالكافور والزنجيل ، والأشجار والقصور ، والمأكول والمشروب ، والملبوس والثمار ، لا يشبه ما في الدنيا إلا في مجرد الاسم . والله سبحانه وتعالى يرغب الناس ويطعمهم بأن يذكر لهم أحسن شيء وألذه وأطيبه مما يعرفونه في الدنيا ؛ لأجل أن يرغبوا ويسعوا فيما يوصلهم إلى هذا النعيم المقيم .
{ إن الأبرار } يعني المؤمنين الصادقين في إيمانهم المطيعين لربهم ، واحدهم بار ، مثل : شاهد وأشهاد ، وناصر وأنصار ، وبر أيضاً مثل : نهر وأنهار ، { يشربون } في الآخرة ، { من كأس } فيه شراب { كان مزاجها كافورا } قال قتادة : يمزج لهم بالكافور ويختم بالمسك . قال عكرمة : { مزاجها } طعمها ، وقال أهل المعاني : أراد كالكافور في بياضه وطيب ريحه وبرده ، لأن الكافور لا يشرب ، وهو كقوله : { حتى إذا جعله ناراً }( الكهف- 96 ) أي كنار . وهذا معنى قول قتادة ومجاهد : يمازجه ريح الكافور . وقال ابن كيسان : طيبت بالكافور والمسك والزنجبيل . وقال عطاء والكلبي : الكافور اسم لعين ماء في الجنة .
قوله تعالى : " إن الأبرار يشربون من كأس " الأبرار : أهل الصدق واحدهم بر ، وهو من امتثل أمر الله تعالى . وقيل : البر الموحد والأبرار جمع بار مثل شاهد وأشهاد ، وقيل : هو جمع بر مثل نهر وأنهار . وفي الصحاح : وجمع البر الأبرار ، وجمع البار البررة ، وفلان يبر خالقه ويتبرره أي يطيعه ، والأم برة بولدها . وروى ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إنما سماهم الله جل ثناؤه الأبرار لأنهم بروا الآباء والأبناء ، كما أن لوالدك عليك حقا كذلك لولدك عليك حقا ) . وقال الحسن : البر الذي لا يؤذي الذر . وقال قتادة : الأبرار الذين يؤدون حق الله ويوفون بالنذر .
وفي الحديث : ( الأبرار الذين لا يؤذون أحدا ) . " يشربون من كأس " أي من إناء فيه الشراب . قال ابن عباس : يريد الخمر . والكأس في اللغة الإناء فيه الشراب : وإذا لم يكن فيه شراب لم يسم كأسا . قال عمرو بن كلثوم :
صَبنْتِ{[15663]} الكأسَ عنا أمَّ عمرو *** وكان الكأس مجراها اليمينَا
وقال الأصمعي : يقال صبنت عنا الهدية أو ما كان من معروف تصبن صبنا : بمعنى كففت . قاله الجوهري . " كان مزاجها " أي شوبها{[15664]} وخلطها ، قال حسان :
كأن{[15665]} سَبيئةَ من بيت رأسٍ *** يكونُ مزاجُهَا عسلٌ وماءُ
ومنه مزاج البدن وهو ما يمازجه من الصفراء والسوداء والحرارة والبرودة . " كافورا " قال ابن عباس : هو اسم عين ماء في الجنة ، يقال له عين الكافور . أي يمازجه ماء هذه العين التي تسمى كافورا . وقال سعيد عن قتادة : تمزج لهم بالكافور وتختم بالمسك . وقاله مجاهد . وقال عكرمة : مزاجها طعمها . وقيل : إنما الكافور في ريحها لا في طعمها . وقيل : أراد كالكافور في بياضه وطيب رائحته وبرده ؛ لأن الكافور لا يشرب ، كقوله تعالى : " حتى إذا جعله نارا " [ الكهف : 96 ] أي كنار . وقال ابن كيسان : طيب بالمسك والكافور والزنجبيل . وقال مقاتل : ليس بكافور الدنيا . ولكن سمى الله ما عنده بما عندكم حتى تهتدي لها القلوب . وقوله : " كان مزاجها " " كان " زائدة أي من كأس مزاجها كافور .
ولما أوجز في جزاء الكافر ، أتبعه جزاء الشاكر وأطنب فيه تأكيداً للترغيب ، فإن النفوس بعد كسر الوعيد لها تهتز{[70573]} لأدنى وعد وأقله فكيف بأتمه وأجله ، فقال مستأنفاً مؤكداً لتكذيب{[70574]} الكافر مبيناً بذكر الخمر على هذه الصفة أنهم في أنهى ما يكون من رغد العيش لأنه يلزم{[70575]} من شربها جميع مقدماتها ومتمماتها : { إن الأبرار } بخصوصهم من عموم الشاكرين جمع بر كأرباب جمع رب ، أو بار كأشهاد جمع شاهد ، وهم الذين سمت هممهم عن المستحقرات فظهرت{[70576]} في قلوبهم ينابيع{[70577]} الحكمة فأنفقوا من مساكنة الدنيا { يشربون } أي ما يريدون شربه { من كأس } أي خمر - قاله الحسن وهو{[70578]} اسم لقدح تكون فيه{[70579]} { كان مزاجها } أي الذي{[70580]} تمزج به { كافوراً * } أي لبرده{[70581]} وعذوبته وطيب عرفه ، وذكر فعل الكون يدل على أن{[70582]} له شأناً{[70583]} في المزج عظيماً{[70584]} يكون فيه كأنه من نفس الجبلة لا كما يعهد .