السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{إِنَّ ٱلۡأَبۡرَارَ يَشۡرَبُونَ مِن كَأۡسٖ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} (5)

ولما أوجز في جزاء الكافر أتبعه جزاء الشاكر وأطنب تأكيداً للترتيب فقال تعالى : { إنّ الأبرار } جمع برّ كأرباب جمع رب أو بار كأشهاد جمع شاهد ، وفي الصحاح وجمع البار البررة وهم الصادقون في أيمانهم المطيعون لربهم الذين سمت همتهم عن المستحقرات فظهرت في قلوبهم ينابيع الحكمة ، وروى ابن عمر رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إنما سماهم الله تعالى الأبرار ؛ لأنهم برّوا الآباء والأبناء كما أن لوالديك عليك حقاً كذلك لولدك عليك حق » . وقال الحسن رضي الله عنه : البرّ الذي لا يؤذي الذرّ . وقال قتادة رضي الله عنه : الأبرار الذين يؤدّون حق الله ويوفون بالنذر . وفي الحديث «الأبرار الذين لا يؤذون أحداً » .

{ يشربون من كأس } هو إناء شرب الخمر وهي فيه والمراد من خمر تسمية للحالّ باسم المحل ومن للتبعيض { كان مزاجها } أي : ما تمزج به { كافوراً } لبرده وعذوبته وطيب عرفه ، وذكر فعل الكون يدل على أنّ له شأناً في المزج عظيماً يكون فيه كأنه من نفس الجبلة لا كما يعهد ، والكافور نبت معروف وكان اشتقاقه من الكفر وهو الستر لأنه يغطي الأشياء برائحته والكافور أيضاً كمام الشجر الذي هو ثمرتها ، والكافر البحر ، والكافر الليل ، والكافر الساتر لنعم الله تعالى ، والكافر الزارع لتوريته الحب في الأرض ، قال الشاعر :

وكافر مات على كفره *** وجنة الفردوس للكافر

والكفارة تغطية الإثم في اليمين الفاجرة والنذور الكاذبة بالمغفرة ، والكافور : ماء جوف الشجر مكفور فيغرزونه بالحديد فيخرج إلى ظاهر الشجر فيضربه الهواء فيجمد وينعقد كالصمغ الجامد على الأشجار .

فإن قيل : مزج الكافور بالمشروب لا يكون لذيذاً فما السبب في ذكره ؟ أجيب : بأوجه :

أحدها : قال ابن عباس رضي الله عنهما : الكافور اسم عين في الجنة يقال لها عين الكافور ، أي : يمازجها ماء هذه العين التي تسمى كافوراً في بياض الكافور ورائحته وبرده ولكن لا يكون فيه طعمه ولا مضرّته .

ثانيها : أنّ رائحة الكافور عرض ، والعرض لا يكون إلا في جسم فخلق الله تعالى تلك الرائحة في جرم ذلك الشراب ، فسمي ذلك الجسم كافوراً وإن كان طعمه طيباً فيكون الكافور ريحها لا طعمها .

ثالثها : أنّ الله تعالى يخلق الكافور في الجنة مع طعم طيب لذيذ ويسلب عنه ما فيه من المضرّة ، ثم إنه تعالى يمزجه بذلك الشراب كما أنه تعالى يسلب عن جميع المأكولات والمشروبات ما معها في الدنيا من المضارّ وقال سعيد عن قتادة رضي الله عنهم : يمزج لهم بالكافور ويختم بالمسك . وقيل : يخلق فيها رائحة الكافور وبياضه فكأنها مزجت بالكافور .