اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّ ٱلۡأَبۡرَارَ يَشۡرَبُونَ مِن كَأۡسٖ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} (5)

قوله تعالى : { إِنَّ الأبرار يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ } الآية . لما ذكر ما أعد للكافرين ذكر ما أعد للشاكرين ، والأبرار أهل الصدق ، واحدهم : برّ ، وهو من امتثل أمر الله تعالى .

وقيل : البر : الموحد ، والأبرار : جمع «بار » مثل : «شاهد وأشهاد » .

وقيل : هو جمع «بر » مثل : «نهر وأنهار » .

وفي «الصحاح »{[58829]} : وجمع البر : الأبرار ، وجمع البار : البررة ، وفلان يبرُّ خالقه ويتبرره أي يطيعه ، والأم برة بولدها .

وروى ابن عمر - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إنَّما سمَّاهُم اللهُ - تَعالَى - الأبْرَارَ ؛ لأنَّهُمْ بَرُّوا الآبَاءَ والأبناءَ ، كما أنَّ لِوالديكَ عَلَيْكَ حقًّا ، كذَلكَ لَوَلدكَ عَليْكَ حقًّاً »{[58830]} .

وقال الحسن : البر الذي لا يؤذي الذَّرَّ{[58831]} .

وقال قتادة : الأبرار الذين يؤدّون حق الله ، ويوفون بالنذر ، وفي الحديث : «الأبْرَارُ الَّذينَ لا يُؤذُوَن أحَداً »{[58832]} .

{ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ } . أي : من إناء فيه الشراب .

قال ابن عباس : يريد الخمر{[58833]} .

والكأس في اللغة : الإناء فيه الشراب ، وإذا لم يكن فيه الشراب لم يسمَّ كأساً .

قوله تعالى : { كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً } المزاج : ما يمزج به أي : يخلط ، يقال : مزجه يمزجه مزجاً أي : خلطه يخلطه خلطاً .

قال حسان : [ الوافر ]

5030- كَأنَّ سَبيَئةً من بَيْتِ رَأسٍ*** يَكونُ مَزَاجهَا عَسلٌ ومَاءُ{[58834]}

فالمزاج كالقِوام اسم لما يقاوم به الشيء ، ومنه مزاج البدن : وهو ما يمازجه من الصفراء والسوداء والحرارة والبرودة .

و«الكافور » : طيب معروف ، وكأن اشتقاقه من الكفر ، وهو الستر لأنه يغطي الأشياء برائحته ، والكافور أيضاً : كمائم الشجر الذي يغطّي ثمرتها .

قال بعضهم الكافُور : «فاعول » من الكفر كالنّاقور من النَّقر ، والغامُوس من الغمس ، تقول : غامسته في الماء أي : غمسته ، والكفر : القرية والجبل العظيم ؛ قال : [ الطويل ]

5031- . . . *** تُطَلَّعُ ريَّاهُ من الكفَرَاتِ{[58835]} ***

والكافور : البحر ، والكَافِر : الليل ، والكَافِر : الساتر لنعم الله تعالى ، والكَافِر : الزارع لتوريته الحب في الأرض ؛ قال الشاعر : [ السريع ]

5032- وكَافرٍ مَاتَ على كُُفْرِهِ *** وجَنَّةُ الفِرْدَوسِ للكَافِرِ{[58836]}

والكفَّارة : تغطية الإثم في اليمين الفاجرة والنذور الكاذبة بالمغفرة ، والكافور : ماء جوف شجر مكنون ، فيغرزونه بالحديد ، فيخرج إلى ظاهر الشجر ، فيضربه الهواء فيجمد وينعقد كالصمغ الجامد على الأشجار .

ويقال : كفر الرجل يكفر إذا وضع يده على صدره .

فصل في الآية

قال ابن الخطيب{[58837]} : مزج الكافور بالمشروب لا يكون لذيذاً ، فما السبب في ذكره ؟ .

والجواب من وجوه :

أحدها : قال ابن عباس : اسم عين ماء في الجنة يقال له : عين الكافور أي : يمازجه ماء هذا العين التي تسمى كافوراً في بياض الكافور ورائحته وبرده ولكن لا يكون فيه طعمه ولا مضرته{[58838]} .

وثانيها : أن رائحة الكافور عرض ، والعرض لا يكون إلا في جسم ، فخلق الله تلك الرائحة في جرم ذلك التراب فسمي ذلك الجسم كافوراً وإن كان طعمه طيباً فيكون ريحها لا طعمها .

وثالثها : أن الله تبارك وتعالى يخلق الكافور في الجنة مع طعم لذيذ ويسلب عنه ما فيه من المضرّة ، ثم إنه - تعالى - يمزجه بذلك الشراب كما أنه تعالى يسلب عن جميع المأكولات والمشروبات ما معها من المضرات في الدنيا .

قال سعيد عن قتادة : يمزج لهم بالكافور ويختم بالمسك{[58839]} .

وقيل : أراد بالكافور في بياضه وطيب رائحته وبرده ، لأن الكافور لا يشرب ، كقوله تعالى : { حتى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً } [ الكهف : 96 ] ، أي : كَنَارٍ .

وقيل : كان في علم الله تعالى ، و«كان » زائدة ، أي : من كأس مزاجها .

قال القرطبي{[58840]} : ويقال : «كافور وقافور » وهي قراءة عبد الله{[58841]} بالقاف بدل الكاف ، وهذا من التعاقب بين الحرفين كقولهم : «عربي فجّ وكجّ » .

ومفعول «يشربون » إما محذوف ، أي : يشربون ماء أو خمراً من كأس ، وإما مذكور وهو «عيناً » ، وإما «من كأس » و «من » مزيدة فيه ، وهذا يتمشّى عند الكوفيين والأخفش .

وقال الزمخشري : «فإن قلت : لم وصل فعل الشرب بحرف الابتداء أولاً ، وبحرف الإلصاق آخراً ؟ قلت : لأن الكأس مبدأ شربهم ، وأول غايته ، وأما العين فبها يمزجون شرابهم ، فكأن المعنى : يشرب عباد الله بها الخمر كما تقول : شربت الماء بالعسل » .


[58829]:ينظر الصحاح 2/588.
[58830]:أخرجه ابن عدي في "الكامل" (4/323) وذكره المتقي الهندي في "كنز العمال" (45492) وعزاه للطبراني عن ابن عمر.
[58831]:ذكره الماوردي في "تفسيره" (6/165) بمعناه والقرطبي (19/81).
[58832]:ينظر المصدر السابق.
[58833]:ينظر المصدر السابق.
[58834]:تقدم.
[58835]:عجز بيت لعبد الله بن نمير الثقفي وصدره: *** له أرج من مجمر الهند ساطع *** ... ينظر اللسان (أرج)، (كفر).
[58836]:ينظر اللسان (كفر).
[58837]:ينظر الفخر الرازي 30/213.
[58838]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (19/82) والرازي (30/213).
[58839]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/358) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/483) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
[58840]:الجامع لأحكام القرآن 19/82.
[58841]:ينظر: الدر المصون 6/441.