ومن ثم قدم تعليم القرآن على خلق الإنسان . فبه يتحقق في هذا الكائن معنى الإنسان .
( خلق الإنسان علمه البيان ) . .
وندع - مؤقتا - خلق الإنسان ابتداء ، فسيأتي ذكره في مكانه من السورة بعد قليل . إذ المقصود من ذكره هنا هو ما تلاه من تعليمه البيان .
إننا نرى الإنسان ينطق ويعبر ويبين ، ويتفاهم ، ويتجاوب مع الآخرين . . فننسى بطول الألفة عظمة هذه الهبة ، وضخامة هذه الخارقة ، فيردنا القرآن إليها ، ويوقظنا لتدبرها ، في مواضع شتى .
فما الإنسان ? ما أصله ? كيف يبدأ ? وكيف يعلم البيان ?
إنه هذه الخلية الواحدة التي تبدأ حياتها في الرحم . خلية ساذجة صغيرة ، ضئيلة ، مهينة . ترى بالمجهر ، ولا تكاد تبين . وهي لا تبين ! ! !
ولكن هذه الخلية ما تلبث أن تكون الجنين . الجنين المكون من ملايين الخلايا المنوعة . . عظمية . وغضروفية . وعضلية . وعصبية . وجلدية . . ومنها كذلك تتكون الجوارح والحواس ووظائفها المدهشة : السمع . البصر . الذوق . الشم . اللمس . ثم . . ثم الخارقة الكبرى والسر الأعظم : الإدراك والبيان ، والشعور والإلهام . . كله من تلك الخلية الواحدة الساذجة الصغيرة الضئيلة المهينة ، التي لا تكاد تبين ، والتي لا تبين !
كيف ? ومن أين ? من الرحمن ، وبصنع الرحمن .
فلننظر كيف يكون البيان ? : ( والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ) . .
إن تكوين جهاز النطق وحده عجيبة لا ينقضي منها العجب . . اللسان والشفتان والفك والأسنان . والحنجرة والقصبة الهوائية والشعب والرئتان . . إنها كلها تشترك في عملية التصويت الآلية وهي حلقة في سلسلة البيان . وهي على ضخامتها لا تمثل إلا الجانب الميكانيكي الآلي في هذه العملية المعقدة ، المتعلقة بعد ذلك بالسمع والمخ والأعصاب . ثم بالعقل الذي لا نعرف عنه إلا اسمه . ولا ندري شيئا عن ماهيته وحقيقته . بل لا نكاد ندري شيئا عن عمله وطريقته !
كيف ينطق الناطق باللفظ الواحد ?
إنها عملية معقدة كثيرة المراحل والخطوات والأجهزة . مجهولة في بعض المراحل خافية حتى الآن .
إنها تبدأ شعورا بالحاجة إلى النطق بهذا اللفظ لأداء غرض معين . هذا الشعور ينتقل - لا ندري كيف - من الإدراك أو العقل أو الروح إلى أداة العمل الحسية . . المخ . . ويقال : إن المخ يصدر أمره عن طريق الأعصاب بالنطق بهذا اللفظ المطلوب . واللفظ ذاته مما علمه الله للإنسان وعرفه معناه . وهنا تطرد الرئة قدرا من الهواء المختزن فيها ، ليمر من الشعب إلى القصبة الهوائية إلى الحنجرة وحبالها الصوتية العجيبة التي لا تقاس إليها أوتار أية آلة صوتية صنعها الإنسان ، ولا جميع الآلات الصوتية المختلفة الأنغام ! فيصوت الهواء في الحنجرة صوتا تشكله حسبما يريد العقل . . عاليا أو خافتا . سريعا أو بطيئا . خشنا أو ناعما . ضخما أو رفيعا . . إلى آخر أشكال الصوت وصفاته . ومع الحنجرة اللسان والشفتان والفك والأسنان ، يمر بها هذا الصوت فيتشكل بضغوط خاصة في مخارج الحروف المختلفة . وفي اللسان خاصة يمر كل حرف بمنطقة منه ذات إيقاع معين ، يتم فيه الضغط المعين ، ليصوت الحرف بجرس معين . .
وذلك كله لفظ واحد . . ووراءه العبارة . والموضوع . والفكرة . والمشاعر السابقة واللاحقة . وكل منها عالم عجيب غريب ، ينشأ في هذا الكيان الإنساني العجيب الغريب ، بصنعة الرحمن ، وفضل الرحمن .
ثم أتبع عز وجل ذلك بنعمة تعليم { البيان } فقال سبحانه : { عَلَّمَهُ البيان } لأن البيان هو الذي به يتمكن عادة من تعلم القرآن وتعليمه ، والمراد به المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير .
والمراد بتعليمه نحو ما مر ، وفي «الإرشاد » أن قوله تعالى : { خَلَقَ الإنسان } [ الرحمن : 3 ] تعيين للمتعلم ، وقوله سبحانه : { عَلَّمَهُ البيان } تبيين لكيفية التعليم ، والمراد بتعليم البيان تمكين الإنسان من بيان نفسه ، ومن فهم بيان غيره إذ هو الذي يدور عليه تعليم القرآن . وقيل : بناءاً على تقدير المفعول المحذوف الملائكة المقربين إن تقديم تعليم القرآن لتقدمه وقوعاً فهم قد علموه قبل خلق الإنسان وربما يرمز إليه قوله تعالى : { إِنَّهُ لَقُرْءانٌ كَرِيمٌ فِى كتاب مَّكْنُونٍ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون } [ الواقعة : 77 79 ] وفي «النظم الجليل » عليه حسن زائد حيث إنه تعالى ذكر أموراً علوية وأموراً سفلية وكل علوي قابله بسفلي ويأتي هذا على تقدير المفعول جبريل عليه السلام أيضاً ؛ وقال الضحاك : { البيان } الخير والشر ، وقال ابن جريج : سبيل الهدى وسبيل الضلالة ، وقال يمان : الكتابة والكل كما ترى ، وجوز أن يراد به القرآن وقد سماه الله تعالى بياناً في قوله سبحانه : { هذا بَيَانٌ } [ آل عمران : 138 ] وأعيد ليكون الكلام تفصيلاً لإجمال { علم القرآن } [ الرحمن : 2 ] وهذا في غاية البعد . وقال قتادة : { الإنسان } آدم . و { البيان } علم الدنيا والآخرة ، وقيل : { البيان } أسماء الأشياء كلها . وقيل : التكلم بلغات كثيرة ، وقيل : الاسم الأعظم الذي علم به كل شيء ، ونسب هذا إلى جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه .
وقال ابن كيسان : { الإنسان } محمد صلى الله عليه وسلم . وعليه قيل : المراد بالبيان بيان المنزل . والكشف عن المراد به كما قال تعالى : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ } [ النحل : 44 ] أو الكلام الذي يشرح به المجمل والمبهم في القرآن أو القرآن نفسه على ما سمعت آنفاً ، أو نحو ذلك مما يناسبه عليه الصلاة والسلام ويليق به من المعاني السابقة ، ولعل ابن كيسان يقدر مفعول علم الإنسان مراداً به النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً ، وهذه أقوال بين يديك ، والمتبادر من الآيات الكريمة لا يخفى عليك ولا أظنك في مرية من تبادر ما ذكرناه فيها أولاً . ثم إن كلاً من الجملتين الأخيرتين خبر عن المبتدأ كجملة { عَلَّمَ القرءان } [ الرحمن : 2 ] وكذا قوله تعالى :
هذا ومن باب الإشارة : { عَلَّمَهُ البيان } وهو تفصيل تلك العلوم الإجمالية { فَإِذَا قرأناه فاتبع قُرْءانَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } [ القيامة : 18 ، 19 ]
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.