مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{عَلَّمَهُ ٱلۡبَيَانَ} (4)

قوله تعالى : { خلق الإنسان ، علمه البيان } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : في وجه الترتيب وهو على وجهين ( أحدهما ) ما ذكرنا أن المراد من علم علم الملائكة وتعليمه الملائكة قبل خلق الإنسان ، فعلم تعالى ملائكته المقربين القرآن حقيقة يدل عليه قوله تعالى : { إنه لقرءان كريم ، في كتاب مكنون ، لا يمسه إلا المطهرون } ثم قال تعالى : { تنزيل من رب العالمين } إشارة إلى تنزيله بعد تعليمه ، وعلى هذا ففي النظم حسن زائد وذلك من حيث إنه تعالى ذكر أمورا علوية وأمورا سفلية ، وكل علوي قابله بسفلي ، وقدم العلويات على السفليات إلى آخر الآيات ، فقال : { علم القرآن } إشارة إلى تعليم العلويين ، وقال : { علمه البيان } إشارة إلى تعليم السفليين ، وقال : { الشمس والقمر } في العلويات وقال في مقابلتهما من السفليات : { والنجم والشجر يسجدان } .

ثم قال تعالى : { والسماء رفعها } وفي مقابلتها : { والأرض وضعها } ، ( وثانيهما ) أن تقديم تعليم القرآن إشارة إلى كونه أتم نعمة وأعظم إنعاما ، ثم بين كيفية تعليم القرآن ، فقال : { خلق الإنسان ، علمه البيان } وهو كقول القائل : علمت فلانا الأدب حملته عليه ، وأنفقت عليه مالي ، فقوله : حملته وأنفقت بيان لما تقدم ، وإنما قدم ذلك لأنه الإنعام العظيم .

المسألة الثانية : ما الفرق بين هذه السورة وسورة العلق ، حيث قال هناك : { اقرأ باسم ربك الذي خلق } ثم قال : { وربك الأكرم الذي علم بالقلم } فقدم الخلق على التعليم ؟ نقول : في تلك السورة لم يصرح بتعليم القرآن فهو كالتعليم الذي ذكره في هذه السورة بقوله : { علمه البيان } بعد قوله : { خلق الإنسان } .

المسألة الثالثة : ما المراد من الإنسان ؟ نقول : هو الجنس ، وقيل : المراد محمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل : المراد آدم و( الأول ) أصح نظرا إلى اللفظ في { خلق } ويدخل فيه محمد وآدم وغيرهما من الأنبياء .

المسألة الرابعة : ما البيان وكيف تعليمه ؟ نقول : من المفسرين من قال : البيان المنطق فعلمه ما ينطق به ويفهم غيره ما عنده ، فإن به يمتاز الإنسان عن غيره عن الحيوانات ، وقوله : { خلق الإنسان } إشارة إلى تقدير خلق جسمه الخاص ، و{ علمه البيان } إشارة إلى تميزه بالعلم عن غيره . وقد خرج ما ذكرنا أولا أن البيان هو القرآن وأعاده ليفصل ما ذكره إجمالا بقوله تعالى : { علم القرآن } كما قلنا في المثال حيث يقول القائل : علمت فلانا الأدب حملته عليه ، وعلى هذا فالبيان مصدر أريد به ما فيه المصدر ، وإطلاق البيان بمعنى القرآن على القرآن في القرآن كثير ، قال تعالى : { هذا بيان للناس } وقد سمى الله تعالى القرآن فرقانا وبيانا والبيان فرقان بين الحق والباطل ، فصح إطلاق البيان ، وإرادة القرآن .

المسألة الخامسة : كيف صرح بذكر المفعولين في علمه البيان ولم يصرح بهما في علم القرآن نقول : أما إن قلنا : إن المراد من قوله علم القرآن هو أنه علم الإنسان القرآن ، فنقول حذفه لعظم نعمة التعليم وقدم ذكره على من علمه وعلى بيان خلقه ، ثم فصل بيان كيفية تعليم القرآن ، فقال : { خلق الإنسان علمه } وقد بين ذلك ، وأما إن قلنا : المراد { علم القرآن } الملائكة فلأن المقصود تعديد النعم على الإنسان ومطالبته بالشكر ومنعه من التكذيب به ، وتعليمه للملائكة لا يظهر للإنسان أنه فائدة راجعة إلى الإنسان وأما تعليم الإنسان فهي نعمة ظاهرة ، فقال : { علمه البيان } أي علم الإنسان تعديدا للنعم عليه ومثل هذا قال في : { اقرأ } قال مرة : { علم بالقلم } من غير بيان المعلم ، ثم قال مرة أخرى : { علم الإنسان ما لم يعلم } وهو البيان ، ويحتمل أن يتمسك بهذه الآية على أن اللغات توقيفية حصل العلم بها بتعليم الله .