محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{عَلَّمَهُ ٱلۡبَيَانَ} (4)

{ خلق الإنسان*علمه البيان } إيماء بأن خلق البشر ، وما تميز به عن سائر الحيوان من البيان – وهو التعبير عما في الضمير ، وإفهام الغير – لما أدركه لتلقي الوحي ، وتعرف الحق ، وتعلم الشرع . أي فإذا كان خلقهم إنما هو في الحقيقة لذلك ، اقتضى اتصاله بالقرآن ، وتنزيله الذي هو منبعه ، وأساس بنيانه .

/ قال الزمخشريّ : وإخلاؤها من العاطف لمجيئها على نمط التعديد ، كما تقول : زيد أغناك بعد فقر ، أعزك بعد ذل ، كثرك بعد قلة ، فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد ، فما تنكر من إحسانه ؟ وهذا – كما قال الشهاب- مصحح . والمرجح الإشارة إلى أن كلاًّ منها نعمة مستقلة تقتضي الشكر . ففيه إيمان إلى تقصيرهم في أدائه . ولو عطفت مع شدة اتصالها وتناسبها ، ربما توهم أنها كلها نعمة واحدة .

وقال الأصفهانيّ في ( الذريعة ( : لما كان للنطق أشرف ما خص به الإنسان ، فإن صورته المعقولة التي بها باين سائر الحيوان . قال عز وجل : { خلق الإنسان . علمه البيان } ولم يقل ( وعلمه ) إذ جعل قوله { علمه } تفسيرا لقوله : { خلق الإنسان } تنبيها أن خلقه إياه هو تخصيصه بالبيان الذي لو توهم مرتفعا لكانت الإنسانية مرتفعة ، ولذلك قيل : ما الإنسان لولا اللسان إلا بهيمة مهملة أو صورة ممثلة . وقيل : المرء مخبوء تحت لسانه .

قال الشاعر :{[6877]}

لسان الفتى نصف ، ونصف فؤاده *** فلم يبق إلا صورة اللحم والدم

أي إذا توهم ارتفاع النطق الذي هو باللسان ، والقوة الناطقة التي هي بالفؤاد ، لم يبق إلا صورة اللحم والدم . فإذا كان الإنسان هو اللسان فلا شك أن من كان أكثر منه حظا كان أكثر منه إنسانية . والصمت من حيث ما هو صمت مذموم ، فذلك من صفات الجمادات ، فضلا عن الحيوانات . وقد جعل الله تعالى بعض الحيوانات بلا صوت ، وجعل لبعضها صوتا بلا تركيب . ومن مدح الصمت ، فاعتبارا بمن يسيء في الكلام ، فيقع منه جنايات عظيمة في أمور الدين والدنيا . فإذا ما اعتبر بأنفسهما ، فمحال أن يقال في الصمت فضل ، فضلا أن يخاير بينه وبين النطق . وسئل حكيم عن فضلهما فقال : الصمت أفضل حتى يحتاج إلى النطق / وسئل آخر عن فضلهما فقال : الصمت عن الخنا ، أفضل من الكلام بالخطا . وعنه أخذ الشاعر :

الصمت أليق بالفتى *** من منطق في غير حينه

انتهى وقد جوّز – كما حكاه الشهاب- أن يكون { الرحمن } خبر محذوف ، أي الله الرحمن ، وما بعده مستأنف لتعديد نعمه . ثم قال : و{ علّم } من التعليم ، ومفعوله مقدر . أي علّم الإنسان ، لا جبريل أو محمدا عليهما الصلاة والسلام . وليس ( من العلامة من غير تقدير ) كما قيل . أي جعله علامة وآية لمن اعتبر – لِبُعْدِهِ .


[6877]:هو زهير بن أبي سلمى، من معلقته التي مطلعها: أمن أم أوفى دمنة لم تكلم *** بِحَوْمَانَةِ الدرَّاج فالمتثلم