ثم جاءت النبوءة الصادقة الخاصة بغلبة الروم في بضع سنين . وقد روى ابن جرير - بإسناده - عن عبد الله ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : كانت فارس ظاهرة على الروم . وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم ؛ و كان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس ، لأنهم أهل كتاب ، وهم أقرب إلى دينهم . فلما نزلت : الم . غلبت الروم في أدنى الأرض ، وهم من بعد غلبهم سيغلبون ، في بضع سنين . قالوا : يا أبا بكر . إن صاحبك يقول : إن الروم تظهر على فارس في بضع سنين . قال : صدق . قالوا : هل لك أن نقامرك ? فبايعوه على أربع قلائص إلى سبع سنين . فمضت السبع ولم يكن شيء . ففرح المشركون بذلك ، فشق على المسلمين فذكر ذلك للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] فقال : " ما بضع سنين عندكم ? " قالوا : دون العشر . قال : " اذهب فزايدهم وازدد سنتين في الأجل " . قال : فما مضت السنتان حتى جاءت الركبان بظهور الروم على فارس . ففرح المؤمنون بذلك .
وقد وردت في هذا الحادث روايات كثيرة اخترنا منها رواية الإمام ابن جرير . وقبل أن نتجاوز الحادث إلى ما وراءه في السورة من التوجيهات نحب أن نقف أمام بعض إيحاءاته القوية .
وأول هذه الإيحاءات ذلك الترابط بين الشرك والكفر في كل مكان وزمان أمام دعوة التوحيد والإيمان . ومع أن الدول قديما لم تكن شديدة الاتصال ، والأمم لم تكن وثيقة الاربتاط كما هو الشأن في عصرنا الحاضر . مع هذا فإن المشركين في مكة كانوا يحسون أن انتصار المشركين في أي مكان على أهل الكتاب هو انتصار لهم ؛ وكان المسلمون كذلك يحسون أن هناك ما يربطهم بأهل الكتاب ، وكان يسوءهم أن ينتصر المشركون في أي مكان ؛ وكانوا يدركون أن دعوتهم وأن قضيتهم ليست في عزلة عما يجري في أنحاء العالم من حولهم ، ويؤثر في قضية الكفر والإيمان .
وهذه الحقيقة البارزة هي التي يغفل عنها الكثيرون من أهل زماننا ؛ ولا ينتبهون إليها كما انتبه المسلمون والمشركون في عصر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] . منذ حوالي أربعة عشر قرنا . ومن ثم ينحصرون داخل حدود جغرافية أو جنسية ؛ ولا يدركون أن القضية في حقيقتها هي قضية الكفر والإيمان ؛ وأن المعركة في صميمها هي المعركة بين حزب الله وحزب الشيطان .
وما أحوج المسلمين اليوم في جميع بقاع الأرض أن يدركوا طبيعة المعركة ، وحقيقة القضية ؛ فلا تلهيهم عنها تلك الأعلام الزائفة التي تتستر بها أحزاب الشرك والكفر ، فإنهم لا يحاربون المسلمين إلا على العقيدة ، مهما تنوعت العلل والأسباب .
والإيحاء الآخر هو تلك الثقة المطلقة في وعد الله ، كما تبدو في قولة أبي بكر - رضي الله عنه - في غير تلعثم ولا تردد ، والمشركون يعجبونه من قول صاحبه ؛ فما يزيد على أن يقول : صدق . ويراهنونه فيراهن وهو واثق . ثم يتحقق وعد الله ، في الأجل الذي حدده : ( في بضع سنين ) . . وهذه الثقة المطلقة على هذا النحو الرائع هي التي ملأت قلوب المسلمين قوة ويقينا وثباتا في وجه العقبات والآلام والمحن ، حتى تمت كلمة الله وحق وعد الله . وهي عدة كل ذي عقيدة في الجهاد الشاق الطويل .
والإيحاء الثالث هو في تلك الجملة المعترضة في مساق الخبر ، من قول الله سبحانه : ( لله الأمر من قبل ومن بعد ) . . والمسارعة برد الأمر كله لله . في هذا الحادث وفي سواه . وتقرير هذه الحقيقة الكلية ، لتكون ميزان الموقف وميزان كل موقف . فالنصر والهزيمة ، وظهور الدول ودثورها ، وضعفها وقوتها . شأنه شأن سائر ما يقع في هذا الكون من أحداث ومن أحوال ، مرده كله إلى الله ، يصرفه كيف شاء ، وفق حكمته ووفق مراده . وما الأحداث والأحوال إلا آثار لهذه الإرادة المطلقة ، التي ليس لأحد عليها من سلطان ؛ ولا يدري أحد ما وراءها من الحكمة ؛ ولا يعرف مصادرها ومواردها إلا الله . و إذن فالتسليم والاستسلام هو أقصى ما يملكه البشر أمام الأحوال والأحداث التي يجريها الله وفق قدر مرسوم .
( ألم . غلبت الروم في أدنى الأرض . وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين ) . .
( لله الأمر من قبل ومن بعد ) . .
( ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ) . .
ولقد صدق وعد الله ، وفرح المؤمنون بنصر الله .
( ينصر من يشاء ، وهو العزيز الرحيم ) . .
فالأمر له من قبل ومن بعد . وهو ينصر من يشاء . لا مقيد لمشيئته سبحانه . والمشيئة التي تريد النتيجة هي ذاتها التي تيسر الأسباب . فلا تعارض بين تعليق النصر بالمشيئة ووجود الأسباب . والنواميس التي تصرف هذا الوجود كله صادرة عن المشيئة الطليقة . وقد أرادت هذه المشيئة أن تكون هناك سنن لا تتخلف ؛ وأن تكون هناك نظم لها استقرار وثبات . والنصر والهزيمة أحوال تنشأ عن مؤثرات ، وفق تلك السنن التي اقتضتها تلك المشيئة الطليقة .
والعقيدة الإسلامية واضحة ومنطقية في هذا المجال . فهي ترد الأمر كله إلى الله . ولكنها لا تعفي البشر من الأخذ بالأسباب الطبيعية التي من شأنها أن تظهر النتائج إلى عالم الشهادة والواقع . أما أن تتحقق تلك النتائج فعلا أو لا تتحقق فليس داخلا في التكليف ، لأن مرد ذلك في النهاية إلى تدبير الله . ولقد ترك الأعرابي ناقته طليقة على باب مسجد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ودخل يصلي قائلا : توكلت على الله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اعقلها وتوكل " . فالتوكل في العقيدة الإسلامية مقيد بالأخذ بالأسباب ، ورد الأمر بعد ذلك إلى الله .
( ينصر من يشاء ، وهو العزيز الرحيم ) . .
فهذا النصر محفوف بظلال القدرة القادرة التي تنشئه وتظهره في عالم الواقع ؛ وبظلال الرحمة التي تحقق به مصالح الناس ؛ وتجعل منه رحمة للمنصورين والمغلوبين سواء . ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض )وصلاح الأرض رحمة للمنتصرين والمهزومين في نهاية المطاف .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وهم} يعني الروم {من بعد غلبهم سيغلبون} أهل فارس...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"فِي أدْنَى الأرْضِ"... عن ابن عباس، قوله "في أدنى الأرْضِ "يقول: في طرف الشام.
ومعنى قوله "أدنى": أقرب، وهو أفعل من الدنوّ والقرب. وإنما معناه: في أدنى الأرض من فارس، فترك ذكر فارس استغناء بدلالة ما ظهر من قوله "فِي أدْنَى الأرْضِ "عليه منه.
وقوله: "وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ" يقول: والروم من بعد غلبة فارس إياهم سيغلبون فارس.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{فِي أَدْنَى الأَرْضِ} يعني أدنى الأرض من أرض الشام إلى أرض فارس.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والأرض: أرض العرب، لأن الأرض المعهودة عند العرب أرضهم. والمعنى: غلبوا في أدنى أرض العرب منهم وهي أطراف الشام. أو أراد أرضهم، على إنابة اللام مناب المضاف إليه، أي: في أدنى أرضهم إلى عدوّهم.
وقوله تعالى: {وهم من بعد غلبهم} أية فائدة في ذكره مع أن قوله: {سيغلبون} بعد قوله: {غلبت الروم} لا يكون إلا من بعد الغلبة؟ فنقول الفائدة فيه إظهار القدرة وبيان أن ذلك بأمر الله، لأن من غلب بعد غلبه لا يكون إلا ضعيفا، فلو كان غلبتهم لشوكتهم لكان الواجب أن يغلبوا قبل غلبهم فإذا غلبوا بعدما غلبوا، دل على أن ذلك بأمر الله، فذكر من بعد غلبهم ليتفكروا في ضعفهم ويتذكروا أنه ليس بزحفهم، وإنما ذلك بأمر الله تعالى.
{في أدنى الأرض} لبيان شدة ضعفهم، أي انتهى ضعفهم إلى أن وصل عدوهم إلى طريق الحجاز وكسروهم وهم في بلادهم ثم غلبوا حتى وصلوا إلى المدائن وبنوا هناك الرومية لبيان أن هذه الغلبة العظيمة بعد ذلك الضعف العظيم بإذن الله...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{في أدنى الأرض} أي أقرب أرضهم إلى أرضكم أيها العرب، وهي في أطراف الشام، وفي تعيين مكان الغلب -على هذا الوجه- بشارة للعرب بأنهم يغلبونهم إذا وافقوهم، فإن موافقتهم لهم تكون في مثل ذلك المكان. وقد كان كذلك بما كشف عنه الزمان، فكأنه تعالى يقول لمن فرح من العرب بنصر أهل فارس على الروم لنكاية المسلمين: اتركوا هذا السرور الذي لا يصوب نحوه من له همة الرجال، وأجمعوا أمركم وأجمعوا شملكم، لتواقعوهم في مثل هذا الوضع فتنصروا عليهم، ثم لا يقاومونكم بعدها أبداً، فتغلبوا على بلادهم ومدنهم وحصونهم وأموالهم ونسائهم وأبنائهم...
ولما ابتدأ سبحانه بما أوجبه للروم من القهر بتبديلهم، معبراً عنهم بأداة التأنيث مناسبة لسفولهم، أتبعه ما صنعه معهم لتفريج المحسنين من عباده الذين ختم بهم الأمم ونسخ بملتهم الملل، وأدالهم على جميع الدول، فقال معبراً بما يقتضي الاستعلاء من ضمير الذكور العقلاء: {وهم} أي الروم، ودل على التبعيض وقرب الزمان بإثبات الجار فقال، معبراً بالجار إشارة إلى أن استعلاءهم إنما يكون في بعض زمان البعد ولا يدوم: {من بعد غلبهم} الذي تم عليهم من غلبة فارس إياهم، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول {سيغلبون} فارساً، فأكد وعده بالسين -وهو غني عن التأكيد- جرياً على مناهيج القوم لما وقع في ذلك من إنكارهم
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... هذا الغلَب الذي ذكر في هذه الآية هو انهزام الروم في الحرب التي جرت بينهم وبين الفرس سنة 615 مسيحية. وذلك أن خسرو بن هرمز ملكَ الفرس غزا الروم في بلاد الشام وفلسطين وهي من البلاد الواقعة تحت حكم هرقل قيْصر الروم، فنازل أنطاكية ثم دمشق وكانت الهزيمة العظيمة على الروم في أطراف بلاد الشام المحاداة بلاد العرب بين بُصرى وأذرعات. وذلك هو المراد في هذه الآية {في أدْنَى الأرْض} أي أدنى بلاد الروم إلى بلاد العرب.
فالتعريف في {الأرْض} للعهد، أي أرض الروم المتحدث عنهم، أو اللام عوض عن المضاف إليه، أي في أدنى أرضهم، أو أدنى أرض الله. وحذف متعلق {أدنى} لظهور أن تقديره: من أرضكم، أي أقرب بلاد الروم من أرض العرب، فإن بلاد الشام تابعة يومئذ للروم وهي أقرب مملكة للروم من بلاد العرب. وكانت هذه الهزيمة هزيمة كبرى للروم.
وقوله {وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين} إخبار بوعد معطوف على الإخبار الذي قبله، وضمائر الجمع عائدة إلى الروم.
و {غَلَبِهم} مصدر مضاف إلى مفعوله. وحذف مفعول {سيغلبون} للعلم بأن تقديره: سيغلبون الذين غلبوهم، أي الفرس إذ لا يتوهم أن المراد سيغلبون قوماً آخرين لأن غلبهم على قوم آخرين وإن كان يرفع من شأنهم ويدفع عنهم معرة غلب الفرس إياهم، لكن القصة تبين المراد ولأن تمام المنة على المسلمين بأن يغلب الروم الفرسَ الذين ابتهج المشركون بغلبهم وشمتوا لأجله بالمسلمين كما تقدم.
وفائدة ذكر {من بعد غلبهم} التنبيه على عظم تلك الهزيمة عليهم، وأنها بحيث لا يُظن نصر لهم بعدَها، فابتهج بذلك المشركون؛ فالوعد بأنهم سيغلبون بعد ذلك الانهزام في أمد غير طويل تحدَ تحدَّى به القرآن المشركين، ودليل على أن الله قدر لهم الغلب على الفرس تقديراً خارقاً للعادة معجزة لنبيئه صلى الله عليه وسلم وكرامة للمسلمين.
{ في أدنى الأرض } أي أقرب أرضهم إلى أرضكم أيها العرب ، وهي في{[52149]} أطراف الشام ، وفي تعيين مكان الغلب - على هذا الوجه -{[52150]} بشارة للعرب بأنهم يغلبونهم إذا وافقوهم ، فإن موافقتهم لهم تكون في مثل ذلك المكان . وقد كان كذلك بما كشف عنه الزمان ، فكأنه تعالى يقول لمن فرح من العرب بنصر أهل فارس على الروم لنكاية المسلمين : اتركوا {[52151]}هذا السرور{[52152]} الذي لا يصوب نحوه من له همة الرجال ، وأجمعوا أمركم وأجمعوا شملكم ، لتواقعوهم في مثل هذا الوضع فتنصروا عليهم ، ثم لا يقاومونكم بعدها أبداً ، فتغلبوا على بلادهم ومدنهم وحصونهم وأموالهم ونسائهم وأبنائهم .
و{[52153]} قال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما أعتب{[52154]} سبحانه أهل مكة ، ونفى عليهم قبح صنيعهم في التغافل{[52155]} عن الاعتبار بحالهم ، وكونهم - مع قلة عددهم - قد منع الله بلدهم{[52156]} عن قاصد نهبه ، وكف أيدي العتاة والمتمردين عنهم مع ( تعاور ) أيدى المنتهين على من حولهم ، وتكرر ذلك واطراده صوناً منه تعالى لحرمه وبيته ، فقال تعالى : أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم }[ العنكبوت : 67 ] أي ولم يكفهم هذا في الاعتبار ، وتبينوا أن ذلك ليس عن قوة منهم ولا حسن دفاع ، وإنما هو{[52157]} بصون الله إياهم بمجاورة بيته وملازمة أمنه مع أنهم أقل العرب ، أفلا يرون هذه النعمة ويقابلونها بالشكر والاستجابة قبل أن يحل{[52158]} بهم نقمة ، ويسلبهم نعمه ، فلما قدم تذكارهم بهذا ، أعقب بذكر طائفة{[52159]} هم أكثر منهم وأشد قوة وأوسع بلاداً ، وقد أيد عليهم غيرهم ، ولم يغن عنهم انتشارهم وكثرتهم ، فقالت : { الم غلبت الروم في أدنى الأرض } الآيات ، فذكر تعالى غلبة غيرهم لهم ، وأنهم ستكون لهم كرة{[52160]} ، ثم يغلبون ، وما ذلك{[52161]} إلا بنصر الله من شاء من عبيده { ينصر من يشاء } فلو كشف عن إبصار من كان بمكة من الكفار لرأوا أن اعتصام بلادهم وسلامة ذرياتهم وأولادهم مما سلط على من حولهم من الانتهاب والقتل وسبي الذراري والحرم إنما هو بمنع الله وكرم صونه لمن جاور حرمه وبيته ، وإلا فالروم أكثر عدداً وأطول مدداً ، ومع ذلك تتكرر{[52162]} عليهم الفتكات والغارات ، وتتوالى{[52163]} عليهم الغلبات ، أفلا يشكر أهل مكة من أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ؟ وأيضاً فإنه سبحانه لما قال :{ وما هذه الحياة{[52164]} الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان }[ العنكبوت : 64 ] أتبع ذلك سبحانه بذكر تقلب حالها ، وتبين اضمحلالها ، وأنها لا تصفو ولا تتم ، وإنما حالها أبداً التقلب وعدم الثبات ، فأخبر بأمر{[52165]} هذه الطائفة التي هي من{[52166]} أكثر أهل الأرض وأمكنهم وهم الروم ، وأنهم لا يزالون مرة عليهم وأخرى لهم ، فأشبهت حالهم هذه حال اللهو واللعب ، فوجب{[52167]} اعتبار العاقل بذلك وطلبه الحصول على تنعم دار لا ينقلب حالها ، ولا يتوقع انقلابها وزوالها ، { وإن الدار الآخرة لهي الحيوان } ومما يقوي هذا المأخذ{[52168]} قوله تعالى " يعلمون " ظاهراً من الحياة الدنيا أي لو علموا باطنها لتحققوا أنها{[52169]} لهو ولعب ولعرفوا{[52170]} أمر الآخرة " من عرف نفسه عرف ربه " ومما يشهد لكل من المقصدين{[52171]} ويعضد كلا الأمرين قوله سبحانه : { أولم يسيروا في الأرض } الآيات ، أي لو فعلوا هذا وتأملوا لشاهدوا من تقلب أحوال الأمم وتغير الأزمنة والقرون ما بين{[52172]} لهم عدم إبقائها{[52173]} على أحد {[52174]}فتحققوا لهوها{[52175]} ولعبها وعلموا{[52176]} أن حالهم سيؤول إلى حال من ارتكب مرتكبهم في العناد والتكذيب وسوء البياد{[52177]} والهلاك - انتهى .
ولما ابتدأ سبحانه بما أوجبه للروم{[52178]} من القهر بتبديلهم ، معبراً عنهم بأداة التأنيث مناسبة لسفولهم ، أتبعه ما صنعه معهم لتفريج المحسنين من عباده الذين ختم بهم الأمم{[52179]} ونسخ بملتهم الملل ، وأدالهم على جميع الدول ، فقال معبراً بما يقتضي الاستعلاء من ضمير الذكور العقلاء : { وهم } أي الروم ، ودل على التبعيض وقرب الزمان بإثبات الجار فقال ، معبراً بالجار إشارة إلى أن استعلاءهم إنما يكون في بعض زمان البعد ولا يدوم{[52180]} : { من بعد غلبهم } الذي تم عليهم من غلبة فارس إياهم{[52181]} ، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول { سيغلبون* } فارساً ، فأكد وعده بالسين - وهو غني عن التأكيد - جرياً على مناهيج القوم لما وقع في ذلك من إنكارهم