ويقرر لهم قاعدة الحساب والجزاء في دار القرار :
( من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها . ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن ، فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب ) . .
فقد اقتضى فضل الله أن تضاعف الحسنات ولا تضاعف السيئات ، رحمة من الله بعباده ، وتقديراً لضعفهم ، وللجواذب والموانع لهم في طريق الخير والاستقامة ، فضاعف لهم الحسنات ، وجعلها كفارة للسيئات . فإذا هم وصلوا إلى الجنة بعد الحساب ، رزقهم الله فيها بغير حساب .
ثم بين الله تعالى كيف يكون الجزاء في الآخرة ، وأشار إلى أن جانب الرحمة فيها غالبٌ على جانب العقاب . . . . فمن أتى في الدنيا معصية من المعاصي مهما كانت لن يعذَّب إلا بقدرها ، ومن عمل صالحا ، ذكرا كان أو أنثى ، وهو مؤمن بربه مصدّق بأنبيائه ورسله ، { فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ } .
وهذه أكبر بشرى للمؤمنين ، ورحمة الله وسِعتْ كل شيء .
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر : يُدخَلون : بضم الياء وفتح الخاء . والباقون : يدخُلون بفتح الياء وضم الخاء .
{ يرزقون فيها بغير حساب } : أي رزقا واسعاً بلا تبعة ولا تعقيب .
{ من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها }وذلك لعدالة الرب تبارك وتعالى ، ومن عمل صالحاً من الأعمال الصالحة التي شرعها الله لعباده وتعبدهم بها والحال أنه مؤمن أي مصدق بالله وبوعده ووعيده يوم لقائه فأولئك أي المؤمنون العاملون للصالحات من الذكور والإِناث يدخلون الجنة دار السلام يرزقون فيها بغير حساب أي رزقاً واسعاً لا يلحق صاحبه تبعة ولا تعب ولا نصب .
- مشروعية التذكير بالحساب والجزاء وما يتم في الدار الآخرة من سعادة وشقاء .
{ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً } من شرك أو فسوق أو عصيان { فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا } أي : لا يجازى إلا بما يسوؤه ويحزنه لأن جزاء السيئة السوء .
{ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى } من أعمال القلوب والجوارح ، وأقوال اللسان { فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي : يعطون أجرهم بلا حد ولا عد ، بل يعطيهم الله ما لا تبلغه أعمالهم .
بين ذلك بقوله : " من عمل سيئة " يعني الشرك " فلا يجزى إلا مثلها " وهو العذاب . " ومن عمل صالحا " قال ابن عباس : يعني لا إله إلا الله . " وهو مؤمن " مصدق بقلبه لله وللأنبياء . " فأولئك يدخلون الجنة " بضم الياء على ما لم يسم فاعله . وهي قراءة ابن كثير وابن محيصن وأبي عمرو ويعقوب وأبي بكر عن عاصم ، يدل عليه " يرزقون فيها بغير حساب " الباقون " يدخلون " بفتح الياء .
ولما حرك الهمم بهذا الوعظ إلى الإعراض عن دار الأنكاد والأمراض ، والإقبال على دار الجلال والجمال بخدمة ذي العز والكمال ، قال في جواب من سأل عن كيفية ذلك ما حاصله أنه بالإقبال على محاسن الأعمال ، وترك السيء من الخلال ، واصلاً بذلك على طريق البيان للبيان ، ذاكراً عاقبة كل ليثبط عما يتلف ، وينشط لما يزلف ، مشيراً إلى جانب الرحمة أغلب ، مقدماً لما هم عليه من السوء محذراً منه ليرجعوا { من عمل سيئة } أي ما يسوء من أي صنف كان : الذكور والإناث والمؤمنين والكافرين { فلا يجزى } أي من الملك الذي لا ملك سواه { إلا مثلها } عدلاً لا يزاد عليها مقدار ذرة ولا أصغر منها ويدخل النار إن لم يكن له ما يكفرها ، فهذا هو الملك الذي ينبغي الإقبال على خدمته لكونه الحكم العدل القادر على الجزاء والمساواة في الجزاء ، فالكافر لما كان على عزم إدامه الكفر كان عذابه دائماً ، والفاسق لما كان على نية التوبة لاعتقاده أنه في معصية وشر كان عذابه منقطعاً ، والآية على عمومها ، وما خرج منها بدليل كان مخصوصاً فيخرج عليها جميع باب الجنايات وغيره ، ومن قال : إنها في شيء معين ، لزمه أن تكون مجملة ، لأن ذاك المعين غير مذكور ، والتخصيص أولى من الإجمال كما قال أهل الأصول .
ولما بين العدل في العقاب ، بين الفضل في الثواب ، تنبيهاً على أن الرحمة سبقت الغضب فقال : { ومن عمل صالحاً } أي ولو قل . ولما كان من يعهدون من الملوك إنما يستعملون الأقوياء لاحتياجهم ، بين أنه على غير ذلك لأنه لا حاجة به أصلاً فقال : { من ذكر أو أنثى } ولما كان العمل لا يصح بدون الإيمان قال مبيناً شرطه : { وهو } أي عمل والحال أنه { مؤمن } ولما كان في مقام الترغيب في عدله وجوده وفضله ، جعل الجزاء مسبباً عن الأعمال فقال : { فأولئك } أي العالو الهمة والمقدار { يدخلون الجنة } أي بأمر من له الأمر كله بعد أن ضاعف لهم أعمالهم فضلاً ، والآية من الاحتباك : ذكر المساواة أولاً عدلاً يدل على المضاعفة ثانياً فضلاً ، وذكر إدخال الجنة ثانياً يدل على إدخال النار أولاً ، وسره أنه ذكر فضله في كل من الشقين { يرزقون فيها } أي من غير احتياج إلى تحول أصلاً ولا إلى أسباب ، ولعل ذلك من أسرار البناء للمفعول { بغير حساب * } لخروج ما فيها بكثرته عن الحصر ، فإن أدنى أهلها منزلة لو أضاف كل أهل الأرض لكفاهم من غير أن ينقص من ملكه شيء ، وهذا من باب الفضل ، وفضل الله لا حد له ، ورحمته غلبت غضبه ، وأما جزاء السيئة فمن باب العدل ، فلذلك وقع الحساب فيها لئلا يقع الظلم ، قال الأصبهاني : فإذا عارضنا عمومات الوعيد بعمومات الوعد ترجح الوعد لسبق الرحمة الغضب ، فأنهدمت قواعد المعتزلة .