ويصور موقف المؤمنين من الساعة وموقف غير المؤمنين :
( يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها ، والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ) . .
والذين لا يؤمنون بها لا تحس قلوبهم هولها ، ولا تقدر ما ينتظرهم فيها ؛ فلا عجب يستعجلون بها مستهترين . لأنهم محجوبون لا يدركون . وأما الذين آمنوا فهم مستيقنون منها ، ومن ثم هم يشفقون ويخافون ، وينتظرونها بوجل وخشية ، وهم يعرفون ما هي حين تكون .
وإنها لحق . وإنهم ليعلمون أنها الحق . وبينهم وبين الحق صلة فهم يعرفون .
( ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد ) . .
فقد أوغلوا في الضلال وأبعدوا ، فعسير أن يعودوا بعد الضلال البعيد . .
يعلمون أنها الحق : يعلمون أن قيامة الساعة حق .
الذين لا يصدّقون بمجيء الساعة يستعجلونها ، وما استعجالهم هذا إلا من قبيل الاستهزاء ، أما الذين آمنوا بالله ورسوله وقيام الساعة فإنهم خائفون من قيامها فلا يستعجلون ، ويعلمون أن ذلك حقٌّ ثابت لا ريب فيه .
وما الذين يجادلون في قيام الساعة من المشركين إلا في ضلالٍ بعيد عن الحق .
{ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا } عنادا وتكذيبا ، وتعجيزا لربهم . { وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا } أي : خائفون ، لإيمانهم بها ، وعلمهم بما تشتمل عليه من الجزاء بالأعمال ، وخوفهم ، لمعرفتهم بربهم ، أن لا تكون أعمالهم منجية لهم ولا مسعدة ، ولهذا قال : { وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ } الذي لا مرية فيه ، ولا شك يعتريه { أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ } أي : بعد ما امتروا فيها ، ماروا الرسل وأتباعهم بإثباتها فهم في شقاق بعيد ، أي : معاندة ومخاصمة غير قريبة من الصواب ، بل في غاية البعد عن الحق ، وأيُّ بعد أبعد ممن كذب بالدار التي هي الدار على الحقيقة ، وهي الدار التي خلقت للبقاء الدائم والخلود السرمد ، وهي دار الجزاء التي يظهر الله فيها عدله وفضله وإنما هذه الدار بالنسبة إليها ، كراكب قال في ظل شجرة ثم رحل وتركها ، وهي دار عبور وممر ، لا محل استقرار .
فصدقوا بالدار المضمحلة الفانية ، حيث رأوها وشاهدوها ، وكذبوا بالدار الآخرة ، التي تواترت بالإخبار عنها الكتب الإلهية ، والرسل الكرام وأتباعهم ، الذين هم أكمل الخلق عقولا ، وأغزرهم علما ، وأعظمهم فطنة وفهما .
قوله تعالى : " يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها " يعني على طريق الاستهزاء ، ظنا منهم أنها غير آتية ، أو إيهاما للضعفة أنها لا تكون . " والذين آمنوا مشفقون منها " أي خائفون وجلون لاستقصارهم أنفسهم مع الجهد في الطاعة ، كما قال : " والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون " {[13485]} [ المؤمنون : 60 ] . " ويعلمون أنها الحق " أي التي لا شك فيها . " ألا إن الذين يمارون في الساعة " أي يشكون ويخاصمون في قيام الساعة . " لفي ضلال بعيد " أي عن الحق وطريق الاعتبار ؛ إذ لو تذكروا لعلموا أن الذي أنشأهم من تراب ثم من نطفة إلى أن بلغوا ما بلغوا ، قادر على أن يبعثهم .
ولما تصور بهذا قربها مشاراً بالتعبير بلعل إلى أن حال المستعجل بها حال المترجي لشيء محبوب وهو جهل منه عظيم ، شرع في تفصيل الناس في أمرها فقال مشيراً إلى أنه ينبغي للعاقل الاستعداد لها للخلاص في وقتها لظهور دلائلها من غير بحث عن قربها أو بعدها ، فإنه لا بد من كونها { يستعجل بها } أي يطلب أن تكون قبل الوقت المضروب لها { الذين لا يؤمنون بها } أي لا يتجدد لهم ذلك أصلاً وهم غير مشفقين منها ويظنون أنها الباطل ، وكان الحال يقتضي أن يكونوا أنفر الناس منها لكن حملهم على ذلك تكذيبهم بها واستهزاؤهم وظنهم عدم كونها جهلاً ممن هم معترفون بقدرته وعلوه وعظمته .
ولما دل على جهل الكافرين ، دل على أضدادهم فقال : { والذين آمنوا } وإن كانوا في أول درجات الإيمان { مشفقون } أي خائفون خوفاً عظيماً { منها } لأن الله هداهم بإيمانهم ، فصارت صدورهم معادن المعارف ، وقلوبهم منابع الأنوار ، فأيقنوا بما فيها من الأهوال الكبار ، فخافوا للطافتهم أن يكونوا مع صلاحهم من أهل النار . ولما قدم الإشفاق تنبيهاً على أن العاقل ينبغي أن يخشى ما يمكن وقوعه ، قال : { ويعلمون أنها الحق } إعلاماً بأنهم على بصيرة من أمرها ، فهم لا يستعجلون بها ، فالآية من الاحتباك : ذكر الاستعجال أولاً دليلاً على حذف ضده ثانياً ، والإشفاق ثانيا دليلاً عل حذف ضده أولاً . قال ابن كثير : وقد روي من طرق تبلغ درجة التواتر في الصحاح والحسان والسنن والمسانيد " أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوت جهوري وهو في بعض أسفاره فناداه : يا محمد ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم بنحو من صوته " ماذم " فقال : متى الساعة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه : " ويحك إنها كائنة فما أعددت لها ؟ " فقال : حب الله ورسوله ، فقال : " أنت مع من أحببت " قال ابن كثير : فقوله في الحديث " المرء مع من أحب " متواتر لا محالة ، والغرض أنه لم يجبه عن وقت الساعة ، بل أمره بالاستعداد لها - انتهى ، وهو مشروط بالبراءة من أعداء الله بدليل قصة أبي طالب فإنه لم ينفعه حب الولي نفعاً تاماً بدون البراءة من العدو .
ولما أعلم بتعريف الحق أنها ثابتة كاملاً لا انقضاء له أصلاً ولا زوال لآثارها ، أنتج قوله مؤكداً معظماً في مقابلة إنكارهم : { ألا إن الذين يمارون } أي يظهرون شكهم في معرض اللجاجة الشديدة طلباً لظهور شك غيرهم من : مريت الناقة - إذا مسحت ضرعها بشدة للحلب لتستخرج ما عساه يكون فيها من اللبن { في الساعة } أي القيامة وما تحتوي عليه { لفي ضلال } أي ذهاب جائر عن الحق { بعيد * } جداً عن الصواب ، فإن لها من الأدلة الظاهرة في العقل المؤيد بجازم النقل ما ألحقها حال غيابها بالمحسوسات لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.