{ 19-20 } { اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ * مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ }
يخبر تعالى بلطفه بعباده ليعرفوه ويحبوه ، ويتعرضوا للطفه وكرمه ، واللطف من أوصافه تعالى معناه : الذي يدرك الضمائر والسرائر ، الذي يوصل عباده -وخصوصا المؤمنين- إلى ما فيه الخير لهم من حيث لا يعلمون ولا يحتسبون .
فمن لطفه بعبده المؤمن ، أن هداه إلى الخير هداية لا تخطر بباله ، بما يسر له من الأسباب الداعية إلى ذلك ، من فطرته على محبة الحق والانقياد له وإيزاعه تعالى لملائكته الكرام ، أن يثبتوا عباده المؤمنين ، ويحثوهم على الخير ، ويلقوا في قلوبهم من تزيين الحق ما يكون داعيا لاتباعه .
ومن لطفه أن أمر المؤمنين ، بالعبادات الاجتماعية ، التي بها تقوى عزائمهم وتنبعث هممهم ، ويحصل منهم التنافس على الخير والرغبة فيه ، واقتداء بعضهم ببعض .
ومن لطفه ، أن قيض لعبده كل سبب يعوقه ويحول بينه وبين المعاصي ، حتى إنه تعالى إذا علم أن الدنيا والمال والرياسة ونحوها مما يتنافس فيه أهل الدنيا ، تقطع عبده عن طاعته ، أو تحمله على الغفلة عنه ، أو على معصية صرفها عنه ، وقدر عليه رزقه ، ولهذا قال هنا : { يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ } بحسب اقتضاء حكمته ولطفه { وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ } الذي له القوة كلها ، فلا حول ولا قوة لأحد من المخلوقين إلا به ، الذي دانت له جميع الأشياء .
قوله تعالى : " الله لطيف بعباده " قال ابن عباس : حفي بهم . وقال عكرمة : بار بهم . وقال السدي : رفيق بهم . وقال مقاتل : لطيف بالبر والفاجر ؛ حيث لم يقتلهم جوعا بمعاصيهم . وقال القرظي : لطيف بهم في العرض والمحاسبة . قال :
غداً عند مولى الخلق للخلق موقفٌ *** يُسَائِلُهم فيه الجليل ويلطف
وقال جعفر بن محمد بن علي بن الحسين : يلطف بهم في الرزق من وجهين : أحدهما : أنه جعل رزقك من الطيبات . والثاني : أنه لم يدفعه إليك مرة واحدة فتبذره . وقال الحسين بن الفضل : لطيف بهم في القرآن وتفصيله وتفسيره . وقال الجنيد : لطيف بأوليائه حتى عرفوه ، ولو لطف بأعدائه لما جحدوه . وقال محمد بن علي الكتاني : اللطيف بمن لجأ إليه من عباده إذا يئس من الخلق توكل ورجع إليه ، فحينئذ يقبله ويقبل عليه . وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله تعالى يطلع على القبور الدوارس فيقول جل وعز : امَّحَتْ آثارهم واضمحلت صورهم وبقي عليهم العذاب ، وأنا اللطيف وأنا أرحم الراحمين خففوا عنهم العذاب فيخفف عنهم العذاب ) . قال أبو علي الثقفي رضي الله عنه :
أمرُّ بأفناء القبور كأنني *** أخو فطنة والثواب فيه نحيف
ومن شقّ فاه الله قدر رزقه *** وربي بمن يلجَا إليه لطيف
وقيل : اللطيف الذي ينشر من عباده المناقب ويستر عليهم المثالب ، وعلى هذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يا من أظهر الجميل وستر القبيح ) . وقيل : هو الذي يقبل القليل ويبذل الجزيل . وقيل : هو الذي يجبر الكسير وييسر العسير . وقيل : هو الذي لا يخاف إلا عدله ولا يرجى إلا فضله . وقيل : هو الذي يبذل لعبده النعمة فوق الهمة ويكفله الطاعة فوق الطاقة . قال تعالى : " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " {[13486]} [ النحل : 18 ] " وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة " {[13487]} [ لقمان : 20 ] ، وقال : " وما جعل عليكم في الدين من حرج " {[13488]} [ الحج :78 ] ، " يريد الله أن يخفف عنكم " {[13489]} [ النساء : 28 ] . وقيل : هو الذي يعين على الخدمة ويكثر المدحة . وقيل : هو الذي لا يعاجل من عصاه ولا يخيب من رجاه . وقيل : هو الذي لا يرد سائله ولا يوئس آمله . وقيل : هو الذي يعفو عمن يهفو . وقيل : هو الذي يرحم من لا يرحم نفسه . وقيل . هو الذي أوقد في أسرار العارفين من المشاهدة سراجا ، وجعل الصراط المستقيم لهم منهاجا ، وأجزل لهم من سحائب بره ماء ثجاجا . وقد مضى في " الأنعام " قول أبي العالية والجنيد أيضا{[13490]} . وقد ذكرنا جميع هذا في ( الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى ) عند اسمه اللطيف ، والحمد لله . " يرزق من يشاء " ويحرم من يشاء . وفي تفضيل قوم بالمال حكمة ؛ ليحتاج البعض إلى البعض ، كما قال : " ليتخذ بعضهم بعضا سخريا " {[13491]} [ الزخرف : 32 ] ، فكان هذا لطفا بالعباد . وأيضا ليمتحن الغني بالفقير والفقير بالغني ، كما قال : " وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون " [ الفرقان : 20 ] على ما تقدم بيانه{[13492]} . " وهو القوي العزيز "
ولما كان حاصل أمر الفريقين أنه أظهر خوف الكافرين في غاية الأمن وأبطن أمن المؤمنين في أزعج خوف ، وكان هذا عين اللطف ، فأنه الوصول إلى الشيء بضده ، ويطلق على إيصال البر إلى الخلق على وجه يدق إدراكه ، وكان أكثر ما يبطئ بالإنسان في أمر الدين اهتمامه بالرزق ، أنتج ذلك قوله : { الله } أي الذي له الأمر كله فهو يفعل ما يريد { لطيف } أي بالغ في العالم وإيقاع الإحسان بإيصال المنافع ، وصرف المضار على وجه يلطف إدراكه ، قال القشيري : اللطيف العالم بدقائق الأمور وغوامضها وهو الملطف المحسن وكلاهما في صفته سبحانه صحيح ، وأكثر ما يستعمل اللطف في وصفه بالإحسان في الأمور الدينية ، وقال الرازي في اللوامع : هو اسم مركب من علم ورحمة ورفق خفي { بعباده } - انتهى .
أما بالمؤمن فواضح ، وأما الكافر فأقل لطفه به أنه لا يعاجله في الدنيا ولا يعذبه فوق ما يستحق في الأخرى ، فالاسم الأول تخويف والثاني ترجية ظاهرة باطنها تخويف ، إشارة إلى ما ينبغي من الخوف والرجاء ، وأن يكون الخوف أغلب .
ولما كان أظهر ما يكون هذا الوصف في الرزق ، فإنه يوسع على من لا حيلة له ، ويحرم من هو في غاية القوة والقدرة ، ويرفع الضعيف الجبان ويخفض القوي الشجاع ، وكل ذلك على حسب ما يعلم من بواطنهم ويزيد من أعمالهم ، قال دالاً على ذلك استئنافاً لمن سأل عن كيفية اللطف : { يرزق من يشاء } مهما شاء على سبيل من السعة أو الضيق أو التوسط لا مانع له من شيء من ذلك ، ويمنع الرزق عمن يشاء إذا علم فراغ أجله فيتوفاه إليه فأجهدوا أنفسكم في طلب مرضاته ، ولا تلتفتوا إلى الخوف من الحاجة فإنه قد فرغ من تقدير الرزق ونهى عن المبالغة في طلبه .
ولما كان ذلك لا يستطيعه أحد سواه لما يحتاج إليه من القوة الكاملة والعزة الشاملة قال : { وهو القوي } أي فلا يضيق عطاؤه بشيء { العزيز * } فلا يقدر أحد أن يمنعه عن شيء .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.