في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{هَلۡ ثُوِّبَ ٱلۡكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفۡعَلُونَ} (36)

والقرآن يتوجه بالسخرية العالية مرة أخرى وهو يسأل :

( هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون ? ) .

أجل ! هل ثوبوا ? هل وجدوا ثواب ما فعلوا ? وهم لم يجدوا( الثواب )المعروف من الكلمة . فنحن نشهدهم اللحظة في الجحيم ! ولكنهم من غير شك لاقوا جزاء ما فعلوا . فهو ثوابهم إذن . وياللسخرية الكامنة في كلمة الثواب في هذا المقام !

ختام السورة:

ونقف لحظة أمام هذا المشهد الذي يطيل القرآن عرض مناظره وحركاته - مشهد سخرية الذين أجرموا من الذين آمنوا في الدنيا - كما أطال من قبل في عرض مشهد نعيم الأبرار وعرض مناظره ومناعمه . فنجد أن هذه الإطالة من الناحية التأثيرية فن عال في الأداء التعبيري ، كما أنه فن عال في العلاج الشعوري . فقد كانت القلة المسلمة في مكة تلاقي من عنت المشركين وأذاهم ما يفعل في النفس البشرية بعنف وعمق . وكان ربهم لا يتركهم بلا عون ، من تثبيته وتسريته وتأسيته .

وهذا التصوير المفصل لمواجعهم من أذى المشركين ، فيه بلسم لقلوبهم . فربهم هو الذي يصف هذه المواجع . فهو يراها ، وهو لا يهملها - وإن أمهل الكافرين حينا - وهذا وحده يكفي قلب المؤمن ويمسح على آلامه وجراحه . إن الله يرى كيف يسخر منهم الساخرون . وكيف يؤذيهم المجرمون . وكيف يتفكه بآلامهم ومواجعهم المتفكهون . وكيف لا يتلوم هؤلاء السفلة ولا يندمون ! إن ربهم يرى هذا كله . ويصفه في تنزيله . فهو إذن شيء في ميزانه . . . وهذا يكفي ! نعم هذا يكفي حين تستشعره القلوب المؤمنة مهما كانت مجروحة موجوعة .

ثم إن ربهم يسخر من المجرمين سخرية رفيعة عالية فيها تلميح موجع . قد لا تحسه قلوب المجرمين المطموسة المغطاة بالرين المطبق عليها من الذنوب . ولكن قلوب المؤمنين الحساسة المرهفة ، تحسه وتقدره ، وتستريح إليه وتستنيم !

ثم إن هذه القلوب المؤمنة تشهد حالها عند ربها ، ونعيمها في جناته ، وكرامتها في الملأ الأعلى . على حين تشهد حال أعدائها ومهانتهم في الملأ الأعلى وعذابهم في الجحيم ، مع الإهانة والترذيل . . تشهد هذا وذلك في تفصيل وفي تطويل . وهي تستشعر حالها وتتذوقه تذوق الواقع اليقين . وما من شك أن هذا التذوق يمسح على مرارة ما هي فيه من أذى وسخرية وقلة وضعف . وقد يبلغ في بعض القلوب أن تتبدل هذه المرارة فيها بالفعل حلاوة ، وهي تشهد هذه المشاهد في ذلك القول الكريم .

ومما يلاحظ أن هذا كان هو وحده التسلية الإلهية للمؤمنين المعذبين المألومين من وسائل المجرمين الخسيسة ، وأذاهم البالغ ، وسخريتهم اللئيمة . . الجنة للمؤمنين ، والجحيم للكافرين . وتبديل الحالين بين الدنيا والآخرة تمام التبديل . . وهذا كان وحده الذي وعد به النبي [ صلى الله عليه وسلم ] المبايعين له . وهم يبذلون الأموال والنفوس !

فأما النصر في الدنيا ، والغلب في الأرض ، فلم يكن أبدا في مكة يذكر في القرآن المكي في معرض التسرية والتثبيت . .

لقد كان القرآن ينشئ قلوبا يعدها لحمل الأمانة . وهذه القلوب كان يجب أن تكون من الصلابة والقوة والتجرد بحيث لا تتطلع - وهي تبذل كل شيء وتحتمل كل شيء - إلى شيء في هذه الأرض . ولا تنتظر إلا الآخرة . ولا ترجو إلا رضوان الله . قلوبا مستعدة لقطع رحلة الأرض كلها في نصب وشقاء وحرمان وعذاب وتضحية واحتمال ، بلا جزاء في هذه الأرض قريب . ولو كان هذا الجزاء هو انتصار الدعوة وغلبة الإسلام وظهور المسلمين !

حتى إذا وجدت هذه القلوب التي تعلم أن ليس أمامها في رحلة الأرض شيء إلا أن تعطي بلا مقابل . وأن تنتظر الآخرة وحدها موعدا للجزاء . وموعدا كذلك للفصل بين الحق والباطل . . حتى إذا وجدت هذه القلوب ، وعلم الله منها صدق نيتها على ما بايعت وعاهدت ، آتاها النصر في الأرض ، وائتمنها عليه . لا لنفسها . ولكن لتقوم بأمانة المنهج الإلهي وهي أهل لأداء الأمانة ، مذ كانت لم توعد بشيء من المغنم في الدنيا تتقاضاه ؛ ولم تتطلع إلى شيء من المغنم في الأرض تعطاه . وقد تجردت لله حقا يوم كانت لا تعلم لها جزاء إلا رضاه !

وكل الآيات التي ورد فيها ذكر للنصر في الدنيا جاءت في المدينة . بعد ذلك . وبعد أن أصبح هذا الأمر خارج برنامج المؤمن وانتظاره وتطلعه . وجاء النصر ذاته لأن مشيئة الله اقتضت أن تكون لهذا المنهج واقعية في الحياة الإنسانية تقرره في صورة عملية محددة ، تراها الأجيال . فلم يكن جزاء على التعب والنصب والتضحية والآلام . إنما كان قدرا من قدر الله تكمن وراءه حكمة نحاول رؤيتها الآن !

   
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{هَلۡ ثُوِّبَ ٱلۡكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفۡعَلُونَ} (36)

{ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } أي : هل جوزوا من جنس عملهم ؟

فكما ضحكوا في الدنيا من المؤمنين ورموهم بالضلال ، ضحك المؤمنون منهم في الآخرة ، ورأوهم{[1390]}  في العذاب والنكال ، الذي هو عقوبة الغي والضلال .

نعم ، ثوبوا ما كانوا يفعلون ، عدلًا من الله وحكمة ، والله عليم حكيم .


[1390]:- في ب: حين رأوهم.
 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{هَلۡ ثُوِّبَ ٱلۡكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفۡعَلُونَ} (36)

قوله تعالى : " فاليوم " يعني هذا اليوم الذي هو يوم القيامة " الذين آمنوا " بمحمد صلى الله عليه وسلم " من الكفار يضحكون " كما ضحك الكفار منهم في الدنيا . نظيره في آخر سورة " المؤمنين " {[15865]} وقد تقدم . وذكر ابن المبارك : أخبرنا محمد بن بشار عن قتادة في قوله تعالى : " فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون " قال : ذكر لنا أن كعبا كان يقول إن بين الجنة والنار كوى ، فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدو كان له في الدنيا اطلع من بعض الكوى . قال الله تعالى في آية أخرى : " فاطلع فرآه في سواء الجحيم " [ الصافات : 55 ] قال : ذكر لنا أنه اطلع فرأى جماجم القوم تغلي . وذكر ابن المبارك أيضا : أخبرنا الكلبي عن أبي صالح في قوله تعالى : " الله يستهزئ بهم " [ البقرة : 15 ] قال : يقال لأهل النار وهم في النار : اخرجوا ، فتفتح لهم أبواب النار ، فإذا رأوها قد فتحت أقبلوا إليها يريدون الخروج ، والمؤمنون ينظرون إليهم على الأرائك ، فإذا انتهوا إلى أبوابها غلقت دونهم ، فذلك قوله : " الله يستهزئ بهم " [ البقرة : 15 ] ويضحك منهم المؤمنون حين غلقت دونهم فذلك قوله تعالى : " فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون . على الأرائك ينظرون . هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون " قد مضى هذا في أول سورة " البقرة " {[15866]} . ومعنى " هل ثوب " أي هل جوزي بسخريتهم في الدنيا بالمؤمنين إذا فعل بهم ذلك . وقيل : إنه متعلق ب " ينظرون " أي ينظرون : هل جوزي الكفار ؟ فيكون معنى هل [ التقرير ] وموضعها نصبا ب " ينظرون " . وقيل : استئناف لا موضع له من الأعراب . وقيل : هو إضمار على القول ، والمعنى : يقول بعض المؤمنين لبعض : " هل ثوب الكفار " أي أثيب وجوزي . وهو من ثاب يثوب أي رجع . فالثواب ما يرجع على العبد في مقابلة عمله ، ويستعمل في الخير والشر . تمت السورة والله أعلم .


[15865]:راجع جـ 12 ص 155.
[15866]:راجع جـ 1 ص 208.

 
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي - ابن جزي [إخفاء]  
{هَلۡ ثُوِّبَ ٱلۡكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفۡعَلُونَ} (36)

{ هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون } معنى : ثوب جوزي يقال : ثوبه وأثابه إذا جازاه وهذه الجملة يحتمل أن تكون متصلة بما قبلها في موضع مفعول ينظرون فتوصل مع ما قبلها أو تكون توقيفا فيوقف قبلها ويكون معمول ينظرون محذوفا حسبما ذكرنا في ينظرون الذي قبل هذا وهذا أرجح لاتفاق الموضعين .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{هَلۡ ثُوِّبَ ٱلۡكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفۡعَلُونَ} (36)

{ هل ثوب } بناه للمفعول لأن الملذذ مطلق مجازاتهم{[72304]} { الكفار } أي وقع تثويب العريقين في الكفر أي إعطاؤهم الثواب والجزاء على أنهى ما يكون ، فالجملة{[72305]} في محل نصب " ينظرون " { ما كانوا } أي نفس فعلهم بما هو لهم كالجبلات { يفعلون * } أي-{[72306]} بدواعيهم الفاسدة ورغباتهم المعلولة ، فالجملة{[72307]} في موضع المفعول ، وقد علم أن لهم الويل الذي افتتحت السورة بالتهديد به لمن يفعل فعل من لا يظن أنه يجازى على فعله ، وآخرها فيمن انتقص{[72308]} الأعراض في خفاء ، و-{[72309]} أولها فيمن انتقص الأموال كذلك ، وجفاء العدل والوفاء ، والله الهادي {[72310]}للصواب ، وإليه المرجع والمآب وإليه المتاب{[72311]} .


[72304]:من ظ و م، وفي الأصل: مجاوزتهم.
[72305]:من م، وفي الأصل و ظ: والجملة.
[72306]:زيد من ظ و م.
[72307]:من م، وفي الأصل و ظ : والجملة.
[72308]:من ظ و م، وفي الأصل: أنقض.
[72309]:زيد من م.
[72310]:سقط ما بين الرقمين من ظ و م.
[72311]:سقط ما بين الرقمين من ظ و م.