( ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر ، وتواصوا بالمرحمة ) . . .
و( ثم )هنا ليست للتراخي الزمني ، إنما هي للتراخي المعنوي باعتبار هذه الخطوة هي الأشمل والأوسع نطاقا والأعلى أفقا . وإلا فما ينفع فك رقاب ولا إطعام طعام بلا إيمان . فالإيمان مفروض وقوعه قبل فك الرقاب وإطعام الطعام . وهو الذي يجعل للعمل الصالح وزنا في ميزان الله . لأنه يصله بمنهج ثابت مطرد . فلا يكون الخير فلتة عارضة ترضية لمزاج متقلب ، أو ابتغاء محمدة من البيئة أو مصلحة .
وكأنما قال : فك رقبة . أو إطعام في يوم ذي مسغبة ، يتيما ذا مقربة ، أو مسكينا ذا متربة . . وفوق ذلك كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة . فثم هنا لإفادة معنى الفضل والعلو .
والصبر هو العنصر الضروري للإيمان بصفة عامة ، ولاقتحام العقبة بصفة خاصة . والتواصي به يقرر درجة وراء درجة الصبر ذاته . درجة تماسك الجماعة المؤمنة ، وتواصيها على معنى الصبر ، وتعاونها على تكاليف الإيمان . فهي أعضاء متجاوبة الحس . تشعر جميعا شعورا واحدا بمشقة الجهاد لتحقيق الإيمان في الأرض وحمل تكاليفه ، فيوصي بعضها بعضا بالصبر على العبء المشترك ؛ ويثبت بعضها بعضا فلا تتخاذل ؛ ويقوي بعضها بعضا فلا تنهزم . وهذا أمر غير الصبر الفردي . وإن يكن قائما على الصبر الفردي . وهو إيحاء بواجب المؤمن في الجماعة المؤمنة . وهو ألا يكون عنصر تخذيل بل عنصر تثبيت ، ولا يكون داعية هزيمة بل داعية اقتحام ؛ ولا يكون مثار جزع بل مهبط طمأنينة .
وكذلك التواصي بالمرحمة . فهو أمر زائد على المرحمة . إنه إشاعة الشعور بواجب التراحم في صفوف الجماعة عن طريق التواصي به ، والتحاض عليه ، واتخاذه واجبا جماعيا فرديا في الوقت ذاته ، يتعارف عليه الجميع ، ويتعاون عليه الجميع .
فمعنى الجماعة قائم في هذا التوجيه . وهو المعنى الذي يبرزه القرآن كما تبرزه أحاديث رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لأهميته في تحقيق حقيقة هذا الدين . فهو دين جماعة ، ومنهج أمة ، مع وضوح التبعة الفردية والحساب الفردي فيه وضوحا كاملا . .
{ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا }{[1433]} أي : آمنوا بقلوبهم بما يجب الإيمان به ، وعملوا الصالحات بجوارحهم . من كل قول{[1434]} وفعل واجب أو مستحب . { وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } على طاعة الله وعن معصيته ، وعلى أقدار المؤلمة بأن يحث بعضهم بعضًا على الانقياد لذلك ، والإتيان به كاملًا منشرحًا به الصدر ، مطمئنة به النفس .
{ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } للخلق ، من إعطاء محتاجهم ، وتعليم جاهلهم ، والقيام بما يحتاجون إليه من جميع الوجوه ، ومساعدتهم على المصالح الدينية والدنيوية ، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه ، ويكره لهم ما يكره لنفسه .
قوله تعالى : " ثم كان من الذين آمنوا " يعني : أنه لا يقتحم العقبة من فك رقبة ، أو أطعم في يوم ذا مسغبة ، حتى يكون من الذين آمنوا ، أي صدقوا ، فإن شرط قبول الطاعات الإيمان بالله . فالإيمان بالله بعد الإنفاق لا ينفع ، بل يجب أن تكون الطاعة مصحوبة بالإيمان ، قال الله تعالى في المنافقين : " وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله{[16083]} " . [ التوبة : 54 ] . وقالت عائشة : يا رسول الله ، إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ، ويطعم الطعام ، ويفك العاني ، ويعتق الرقاب ، ويحمل على إبله لله ، فعل ينفعه ذلك شيئا ؟ قال : [ لا ، إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ] . وقيل : " ثم كان من الذين آمنوا " أي فعل هذه الأشياء وهو مؤمن ، ثم بقي على إيمانه حتى الوفاة ؛ نظيره قوله تعالى : " وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى{[16084]} " [ طه : 82 ] . وقيل : المعنى ثم كان من الذين يؤمنون بأن هذا نافع لهم عند الله تعالى . وقيل : أتى بهذه القرب لوجه الله ، ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم . وقد قال حكيم بن حزام بعدما أسلم ، يا رسول الله ، إنا كنا نتحنث{[16085]} بأعمال في الجاهلية ، فهل لنا منها شيء ؟ فقال عليه السلام : [ أسلمت على ما أسلفت من الخير ] . وقيل : إن " ثم " بمعنى الواو ، أي وكان هذا المعتق الرقبة ، والمطعم في المسغبة ، من الذين آمنوا . " وتواصوا " أي أوصى بعضهم بعضا . " بالصبر " أي بالصبر على طاعة الله ، وعن معاصيه ، وعلى ما أصابهم من البلاء والمصائب . " وتواصوا بالمرحمة " بالرحمة على الخلق ، فإنهم إذا فعلوا ذلك رحموا اليتيم والمسكين .
قوله : { ثم كان من الذين آمنوا } مع ما ذكر من صفات طيبة فإن مؤمن بقلبه ، يبتغي بعمله وجه الله . فإنه ما من عمل لا يبتغي به صاحبه وجه ربه إلا ليس له فيه من حسن الجزاء نصيب .
قوله : { وتواصوا بالصبر } يعني كان من المؤمن الذين يوصي بعضهم بعضا بالصبر على الطاعات وعلى احتمال الأذى والمكاره .
قوله : { وتواصوا بالمرحمة } أي يوصي بعضهم بعضا بالتراحم بينهم وبالرحمة بالعباد . لا جرم أن المسلمين رحماء بينهم . وهم كذلك رحماء بالعباد يدعونهم إلى الحق بالحكمة والرفق واللين وبالحجة الساطعة والبرهان الأتم . بل إن المسلمين رحماء بالخليقة كلها سواء منها الآدميون أو الدواب والبهائم . فإن المسلم حافل قلبه بمثل هاتيك الخلائق فلا يؤذيها أو يقسو عليها . وفي الحديث : " الراحمون يرحمهم الله . ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء " .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.