{ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ } أي : تختبر سرائر الصدور ، ويظهر ما كان في القلوب من خير وشر على صفحات الوجوه قال تعالى : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } ففي الدنيا ، تنكتم كثير من الأمور ، ولا تظهر عيانًا للناس ، وأما في القيامة ، فيظهر بر الأبرار ، وفجور الفجار ، وتصير الأمور علانية .
الأولى- العامل في " يوم " - وفي قول من جعل المعنى إنه على بعث الإنسان - قوله " لقادر " ، ولا يعمل فيه " رجعه " لما فيه من التفرقة بين الصلة والموصول بخبر " إن " . وعلى الأقوال الأخر التي في " إنه على رجعه لقادر " ، يكون العامل في " يوم " فعل مضمر ، ولا يعمل فيه " لقادر " ؛ لأن المراد في الدنيا . و " تبلى " أي تمتحن وتختبر . وقال أبو الغول الطهوي{[15943]} :
ولا تَبْلَى بَسَالَتُهُم وإن هُمْ *** صَلُوا بالحَرْبِ حينًا بعد حِينِ
ويروى تبلى بسالتهم . فمن رواه " تبلى " - بضم التاء - جعله من الاختبار ، وتكون البسالة على هذه الرواية الكراهة ، كأنه قال : لا يعرف لهم فيها كراهة . و " تبلى " تعرف . وقال الراجز :
قد كنتَ قبلَ اليومِ تَزْدَرِينِي *** فاليومَ أبلُوكَ وتَبْتَلِينِي
أي أعرفك وتعرفني . ومن رواه " تبلى " - بفتح التاء - فالمعنى : أنهم لا يضعفون عن الحرب وإن تكررت عليهم زمانا بعد زمان . وذلك أن الأمور الشداد إذا تكررت على الإنسان هدته وأضعفته . وقيل : " تبلى السرائر " : أي تخرج مخبآتها وتظهر ، وهو كل ما كان استسره الإنسان من خير أو شر ، وأضمره من إيمان أو كفر ، كما قال الأحوص :
سيبقَى{[15944]} لها في مُضْمَرِ القلبِ والحَشَا *** سريرة ودّ يوم تُبْلَى السرائرُ
الثانية- روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : ( ائتمن اللّه تعالى خلقه على أربع : على الصلاة ، والصوم ، والزكاة ، والغسل ، وهي السرائر التي يختبرها اللّه عز وجل يوم القيامة ) . ذكره المهدوي . وقال ابن عمر قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : ( ثلاث من حافظ عليها فهو ولي اللّه حقا ، ومن اختانهن فهو عدو اللّه حقا : الصلاة ، والصوم ، والغسل من الجنابة ) ذكره الثعلبي . وذكر الماوردي عن زيد ابن أسلم : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ( الأمانة ثلاث : الصلاة والصوم ، والجنابة . استأمن اللّه عز وجل ابن آدم على الصلاة ، فإن شاء قال صليت ولم يصل . استأمن اللّه عز وجل ابن آدم على الصوم ، فإن شاء قال صمت ولم يصم . استأمن اللّه عز وجل ابن آدم على الجنابة ، فإن شاء قال اغتسلت ولم يغتسل ، اقرؤوا إن شئتم " يوم تبلى السرائر " ) ، وذكره الثعلبي عن عطاء . وقال مالك في رواية أشهب عنه ، وسألته عن قوله تعالى : " يوم تبلى السرائر " : أبلغك أن الوضوء من السرائر ؟ قال : قد بلغني ذلك فيما يقول الناس ، فأما حديث أحدث{[15945]} به فلا . والصلاة من السرائر ، والصيام من السرائر ، إن شاء قال صليت ولم يصل . ومن السرائر ما في القلوب ، يجزي اللّه به العباد . قال ابن العربي : قال ابن مسعود يغفر للشهيد إلا الأمانة ، والوضوء من الأمانة ، والصلاة والزكاة من الأمانة ، والوديعة من الأمانة ، وأشد ذلك الوديعة ، تمثل له على هيئتها يوم أخذها ، فيرمي بها في قعر جهنم ، فيقال له : أخرجها ، فيتبعها فيجعلها في عنقه ، فإذا رجا أن يخرج بها زلت منه ، فيتبعها ، فهو كذلك دهر الداهرين . وقال أبي بن كعب : من الأمانة أن ائتمنت المرأة على فرجها . قال أشهب : قال لي سفيان : في الحيضة والحمل ، إن قالت لم أحض وأنا حامل صدقت ، ما لم تأت بما يعرف فيه أنها كاذبة . وفي الحديث : [ غسل الجنابة من الأمانة ] . وقال ابن عمر : يبدي اللّه يوم القيامة كل سر خفي ، فيكون زينا في الوجوه ، وشينا في الوجوه . واللّه عالم بكل شيء ، ولكن يظهر علامات الملائكة والمؤمنين .
ولما كان هذا يحرك السامع غاية التحريك لأن يقول : متى تكون رجعه له ؟ قال مجيباً له : { يوم تبلى } وبناه{[72703]} للمفعول إشارة مع التنبيه على السهولة إلى أن-{[72704]} من{[72705]} الأمر البين غاية البيان أن الذي يبلوها{[72706]} هو الذي يرجعها ، وهو الله سبحانه وتعالى من غير احتياج إلى ذكره{[72707]} { السرائر * } أي كل ما انطوت عليه الصدور من العقائد والنيات ، و{[72708]}أخفته الجوارح من الإخلال{[72709]} بالوضوء والغسل ونحو ذلك من جميع الجنايات ، بأن تخالط السرائر في ذلك اليوم ، وهو يوم القيامة ، من الأمور الهائلة ما يميلها{[72710]} فيحيلها عما هي عليه فتعود جهراً{[72711]} بعد أن كانت سراً ، فيميز طيبها من خبيثها ويجازى عليه صاحبه .
قوله : { يوم تبلى السرائر } يوم ، ظرف . والعامل فيه مقدر . أي يرجعه الله يوم تبلى السرائر . وقيل : يوم ، منصوب على أنه مفعول به لفعل مقدر وتقديره واذكر . أي واذكر يوم تبلى السرائر ، والسرائر جمع سريرة وهي ما يستكنّ في القلوب من العقائد والنوايا . والمراد هنا عرض الأعمال ونشر الصحف وانكشاف ما كانت تخفيه طوايا الصدور . وحينئذ يستبين الحق من الباطل ويتميز الخبيث من الطيب .