وهذه حالهم مع ربهم ، فأما حالهم مع الناس ، وحالهم مع المال ، فهو مما يليق بالمحسنين :
( وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ) . .
فهم يجعلون نصيب السائل الذي يسأل فيعطى ، ونصيب المحروم الذي يسكت ويستحيي فيحرم . يجعلون نصيب هذا وهذا حقا مفروضا في أموالهم . وهم متطوعون بفرض هذا الحق غير المحدود .
وهذه الإشارة تتناسق مع علاج السورة لموضوع الرزق والمال ، لتخليص القلب من أوهاق الشح وأثقال البخل وعوائق الانشغال بالرزق . وتمهد للمقطع التالي في السورة ، في الوقت الذي تكمل سمة المتقين وصورة المحسنين .
الرابعة- قوله تعالى : " وفي أموالهم حق للسائل والمحروم " مدح ثالث . قال محمد بن سيربن وقتادة : الحق هنا الزكاة المفروضة . وقيل : إنه حق سوى الزكاة يصل به رحما ، أو يقري به ضيفا ، أو يحمل به كَلاًّ ، أو يغني محروما . وقاله ابن عباس ؛ لأن السورة مكية وفرضت الزكاة بالمدينة . ابن العربي : والأقوى في هذه الآية أنها الزكاة ؛ لقوله تعالى في سورة " المعارج " : " والذين في أموالهم حق معلوم . للسائل والمحروم{[14212]} " [ المعارج :25 ] والحق المعلوم هو الزكاة التي بين الشرع قدرها وجنسها ووقتها ، فأما غيرها لمن يقول به فليس بمعلوم ؛ لأنه غير مقدر ولا مجنس ولا موقت .
الخامسة- قوله تعالى : " للسائل والمحروم " السائل الذي يسأل الناس لفاقته ؛ قاله ابن عباس وسعيد بن المسيب وغيرهما . " والمحروم " الذي حرم المال . واختلف في تعيينه ، فقال ابن عباس وسعيد بن المسيب وغيرهما : المحروم المحارف الذي ليس له في الإسلام سهم . وقالت عائشة رضي الله عنها : المحروم المُحَارف الذي لا يتيسر له مكسبه ، يقال : رجل محارف بفتح الراء أي محدود محروم ، وهو خلاف قولك مبارك . وقد حورف كسب فلان إذا شدد عليه في معاشه كأنه ميل برزقه عنه . وقال قتادة والزهري : المحروم المتعفف الذي لا يسأل الناس شيئا ولا يعلم بحاجته . وقال الحسن ومحمد ابن الحنفية : المحروم الذي يجيء بعد الغنيمة وليس له فيها سهم . روي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية فأصابوا وغنموا فجاء قوم بعد ما فرغوا فنزلت هذه الآية " وفي أموالهم " . وقال عكرمة : المحروم الذي لا يبقى له مال . وقال زيد بن أسلم : هو الذي أصيب ثمره أو زرعه أونسل ماشيته . وقال القرظي : المحروم الذي أصابته الجائحة ثم قرأ " إن لمغرمون . بل نحن محرومون " نظيره في قصة أصحاب الجنة حيث قالوا : " بل نحن محرومون " [ الواقعة : 66 ] وقال أبو قلابة : كان رجل من أهل اليمامة له مال فجاء سيل فذهب بماله ، فقال رجل من أصحابه : هذا المحروم فاقسموا له . وقيل : إنه الذي يطلب الدنيا وتدبر عنه . وهو يروى عن ابن عباس أيضا . وقال عبدالرحمن بن حميد : المحروم المملوك . وقيل : إنه الكلب ، روي أن عمر بن عبدالعزيز كان في طريق مكة ، فجاء كلب فانتزع عمر رحمه الله كتف شاة فرمى بها إليه وقال : يقولون إنه المحروم . وقيل : إنه من وجبت نفقته بالفقر من ذوي الأنساب ؛ لأنه قد حرم كسب نفسه حتى وجبت نفقته في مال غيره . وروى ابن وهب عن مالك : أنه الذي يحرم الرزق ، وهذا قول حسن ؛ لأنه يعم جميع الأقوال . وقال الشعبي : لي اليوم سبعون سنة منذ احتلمت أسأل عن المحروم فما أنا اليوم بأعلم مني فيه يومئذ . رواه شعبة عن عاصم الأحول عن الشعبي . وأصله في اللغة الممنوع ، من الحرمان وهو المنع . قال علقمة :
ومُطْعِمُ الغُنْمِ يوم الغُنْمِ مُطْعَمُه *** أَنَّى توجه والمحروم مَحْرُومُ
وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ويل للأغنياء من الفقراء يوم القيامة يقولون : ربنا ظلمونا حقوقنا التي فرضت لنا عليهم فيقول الله تعالى : وعزتي وجلالي لأقربنكم ولأبعدنهم ) ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم " وفي أموالهم حق للسائل والمحروم " ذكره الثعلبي .
{ وفي أموالهم حق للسائل والمحروم } الحق هنا نوافل الصدقات ، وقيل : المراد الزكاة وهذا بعيد لأن الآية مكية ، وإنما فرضت الزكاة بالمدينة ، وقيل : إن الآية منسوخة بالزكاة ، وهذا لا يحتاج إليه لأن النسخ إنما يكون مع التعارض ، ولا تعارض بين الزكاة والنوافل وتسمية النوافل بالحق كقوله : { حقا على المحسنين } [ البقرة : 236 ] ، وإن كان غير واجب ، وقال بعض العلماء : حق سوى الزكاة ورجحه ابن عطية واختلف الناس في المحروم حتى قال الشعبي : أعياني أن أعلم ما المحروم ، وقيل : المحروم الذي ليس له في بيت المال سهم ، وقيل : الذي أجيحت ثمرته ، وقيل : الذي ماتت ماشيته ، وقيل : هو الكلب وهذه أمثلة ، والمعنى الجامع لها أن المحروم الذي حرمه الله المال بأي وجه كان .
ولما ذكر معاملتهم للخالق ، أتبعه المعاملة للخلائق تكميلاً لحقيقة الإحسان فقال : { وفي أموالهم } أي كل أصنافها { حق } أي نصيب ثابت . ولما كان السياق هنا للإحسان ، فكان إحسانهم لفرط محبتهم إلى عباد الله لا يوقفهم عن الواجب بخلاف ما في " سأل " من سياق المصلين مطلقاً ترك وصفه بالمعلومية فقال{[61337]} : { للسائل } أي الذي ينبه على حاجته بسؤال الناس وهو المتكفف { والمحروم * } وهو المتعفف الذي لا يجد ما يغنيه ، ولا يسأل الناس ولا يفطن له ليتصدق عليه ، وهذه صفة أهل الصفة رضي الله عنهم ، فالمحسنون يعرفون صاحب هذا-{[61338]} الوصف لما لهم {[61339]}من نافذ{[61340]} البصيرة ولله بهم من العناية .
قوله : { وفي أموالهم حق للسائل والمحروم } ذلك إطراء آخر للمؤمنين المحسنين . وهو أنهم يبذلون حقا من أموالهم للسائل والمحروم . والمراد بالحق في أموالهم : الزكاة المفروضة . وقيل : كل حق سوى الزكاة . والأولى أنه ما يفرزه المحسن من ماله فيجعله للسائل والمحروم وغيرهما ممن يجب بذل المال إليه كالرحم والضيف والجار المحتاج .
أما السائل ، فهو الذي يسأل الناس لما به من فاقة وعوز ، وله حق فقد روى الإمام أحمد عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها الحسين بن علي ( رضي الله عنهما ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " للسائل حق وإن جاء على فرس " .
وأما المحروم ، فهو المحارف – بفتح الراء- أي المحدود المحروم وهو ضد المبارك . وقد حورف كسب فلان إذا شدد عليه في معاشه كأنه ميل برزقه عنه{[4332]} والمراد به ههنا الذي ليس له سهم في بيت المال ولا كسب له ولا حرفة يتقوت منها . وقالت أم المؤمنين عائشة ( رضي الله عنها ) : هو المحارف الذي لا يكاد يتيسر له مكسبه . وقيل : هو المتعفف الذي لا يسأل الناس شيئا ، ولا يعلم الناس بحاجته . وفي الحديث : " ليس المسكين بالطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه " .