( ومن آياته أن خلقكم من تراب ، ثم إذا أنتم بشر تنتشرون ) . .
والتراب ميت ساكن ؛ ومنه نشأ الإنسان . وفي موضع آخر في القرآن جاء : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين فالطين هو الأصل البعيد للإنسان . ولكن هنا يذكر هذا الأصل ويعقبه مباشرة بصورة البشر منتشرين متحركين . للمقابلة في المشهد والمعنى بين التراب الميت الساكن والبشر الحي المتحرك . وذلك بعد قوله : ( يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي )تنسيقا للعرض على طريقة القرآن .
وهذه المعجزة الخارقة آية من آيات القدرة ، وإيحاء كذلك بالصلة الوثيقة بين البشر وهذه الأرض التي يعيشورن عليها ؛ و التي يلتقون بها في أصل تكوينهم ، وفي النواميس التي تحكمها وتحكمهم في نطاق الوجود الكبير .
والنقلة الضخمة من صورة التراب الساكن الزهيد إلى صورة الإنسان المتحرك الجليل القدر . . نقلة تثير التأمل في صنع الله ؛ وتستجيش الضمير للحمد والتسبيح لله ؛ وتحرك القلب لتمجيد الصانع المتفضل الكريم .
{ 20 - 21 } { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }
هذا شروع في تعداد آياته الدالة على انفراده بالإلهية وكمال عظمته ، ونفوذ مشيئته وقوة اقتداره وجميل صنعه وسعة رحمته وإحسانه فقال : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ } وذلك بخلق أصل النسل آدم عليه السلام { ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ } [ أي : الذي خلقكم من أصل واحد ومادة واحدة ] {[1]} وبثكم في أقطار الأرض [ وأرجائها ففي ذلك آيات على أن الذي أنشأكم من هذا الأصل وبثكم في أقطار الأرض ]{[2]} هو الرب المعبود الملك المحمود والرحيم الودود الذي سيعيدكم بالبعث بعد الموت .
ولما كان التقدير : هذا من آيات الله التي{[52814]} تشاهدونها كل حين دلالة على بعثكم ، عطف عليه التذكير بما هو أصعب منه في مجاري العادات فقال : { ومن آياته } أي على قدرته على بعثكم . ولما كان المراد إثبات قدرته سبحانه على بعثهم بعد أن صاروا تراباً بإيجاده لأصلهم من تراب{[52815]} يزيد على البعث{[52816]} في الإعجاب{[52817]} بأنه لم يكن له أصل في الحياة ، وكان فعله لذلك{[52818]} إنما مكان مرة واحدة ، قال معبراً بالماضي : { أن خلقكم } بخلق أبيكم آدم { من تراب } لم يكن له أصل اتصاف ما بحياة .
ولما كان ابتداء الإنسان من التراب في غاية العجب ، أشار إلى ذلك بأداة البعد فقال : { ثم } أي بعد إخراجكم منه { إذا أنتم بشر } أي فاجأتم{[52819]} كونكم لكم بشرة هي في غاية التماسك والاتصال مع اللين عكس ما كان لكم من الوصف إذا{[52820]} كنتم تراباً ، وأسند الانتشار إلى المبتدأ المخاطب لا{[52821]} إلى الخبر لأن الخطاب أدل على المراد فقال : { تنتشرون } أي تبلغون بالنشر كل مبلغ بالانتقال من مكان إلى مكان مع العقل والنطق ، ولم يختم
هذه الآية{[52822]} بما ختم به ما{[52823]} بعدها دلالة على أنها جامعة لجميع الآيات ، ودلالة على جميع الكمالات ، وختم ما بعدها بذلك تنبيهاً على أن{[52824]} الناس أهملوا{[52825]} النظر فيها على وضوحها ، وكان من حقهم أن يجعلوها نصب أعينهم ، دلالة على كل ما نزلت به الكتب ، وأخبرت به الرسل ، وكذلك{[52826]} أكد في الإخبار إعلاماً بأنهم صاروا لإهمالها في حيز الإنكار .
قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ ( 20 ) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } .
المصدر من { أن } والفعل في موضع رفع مبتدأ ، والجار والمجرور قبله خبر . والتقدير : وخلقُكم من تراب من آياته{[3600]} .
يعني : ومن آيات الله ودلالاته على ربوبيته ووحدانيته وكمال قدرته وعظمته { أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ } أي خلق أصلكم وهو أبوكم آدم { مِّن تُرَابٍ } وأنتم فرع آدم ، والفرع كالأصل { ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ } وذلك بعد أن مررتم في جملة مراحل وأطوار ، واحدا عقب الآخر ، بدءا بالنطف في الأرحام ، ثم المُضَغ ، ثم العلق ، ثم العظام واكتساؤه باللحم ، ثم النفخ لبعث الروح ، ثم الخروج إلى الدنيا أطوار ، بدءا بالرضاع ، ثم الفطام ، ثم اليفاع ، ثم الشباب فالشيخوخة والاكتهال . ويتخلل ذلك سعي وكدّ ونشاط وتعامل ونَصَب وصراع مع الباطل وأهله .
ذلك هو الإنسان المفكر والساعي والمنتشر ؛ فهو أوله نطفة مهينة مستقذرة ، ثم تقلّب في مراحل شتى من التطور المتعاقب حتى صار إنسانا سويا قويا مكتمل البنية والإرادة والفهم . وصار ذا بصر وتفكير وتدبير ودهاء وحيلة ، فيقطع الأمصار ويجوب البحار والفضاء مسافرا طمعا في كسب أو تحصيل . وبات يعقد المعاهدات والمؤامرات في وضح النهار أو بهيمة الظلمات . أفلا يدل ذلك على قدرة الخالق العليم .
والأعجب من ذلك أن تندرج كل هذه المعاني الكبيرة والكثيرة والمختلفة في هذه الآية القصيرة ذات الكلمات المعدودة { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ } آية وجيزة تعرض لحال الإنسان كله بدءا بكونه نطفة في رحم أمه وانتهاء بكونه بشرا ذا قوة وإرادة وصورة حسنة ، يسعى جادا منتشرا في الأرض . وهذا واحد من الأدلة الظاهرة على إعجاز القرآن وعلى أنه حق وأنه الخالق الموجد القادر .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.