في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلۡفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِۖ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلۡغَنِيُّ ٱلۡحَمِيدُ} (15)

15

( يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله ، والله هو الغني الحميد ، إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد ، وما ذلك على الله بعزيز ) . .

إن الناس في حاجة إلى تذكيرهم بهذه الحقيقة في معرض دعوتهم إلى الهدى ، ومجاهدتهم ليخرجوا مما هم فيه من الظلمات الى نور الله وهداه . في حاجة الى تذكيرهم بأنهم هم الفقراء المحاويج إلى الله . وأن الله غني عنهم كل الغنى . وأنهم حين يدعون إلى الإيمان بالله وعبادته وحمده على آلائه فإن الله غني عن عبادتهم وحمدهم ، وهو المحمود بذاته . وأنهم لا يعجزون الله ولا يعزون عليه فهو إن شاء أن يذهب بهم ويأتي بخلق جديد من جنسهم أو من جنس آخر يخلفهم في الأرض ، فإن ذلك عليه يسير . .

الناس في حاجة إلى أن يذكروا بهذه الحقيقة ، لئلا يركبهم الغرور وهم يرون أن الله - جل وعلا - يعنى بهم ، ويرسل إليهم الرسل ؛ ويجاهد الرسل أن يردوهم عن الضلالة الى الهدى ، ويخرجوهم من الظلمات إلى النور . ويركبهم الغرور فيظنون أنهم شيء عظيم على الله ! وأن هداهم وعبادتهم تزيد شيئاً في ملكه تعالى ! والله هو الغني الحميد .

وإن الله سبحانه يمنح العباد من رعايته ، ويفيض عليهم من رحمته ، ويغمرهم بسابغ فضله - بإرسال رسله إليهم ، واحتمال هؤلاء الرسل ما يحتملون من إعراضهم وإيذائهم ، وثباتهم على الدعوة إلى الله بعد الإعراض والإيذاء . . إن الله سبحانه إنما يعامل عباده هكذا رحمة منه وفضلاً وكرماً ومناً . لأن هذه صفاته المتعلقة بذاته . لا لأن هؤلاء العباد يزيدون في ملكه شيئاً بهداهم ، أو ينقصون من ملكه شيئاً بعماهم . ولا لأن هؤلاء العباد مخلوقات نادرة عزيزة صعبة الإعادة أو الاستبدال ، فيغتفر لهم ما يقع منهم لأنهم صنف لا يعاد ولا يستبدل .

وإن الإنسان ليدهش ويحار في فضل الله ومنه وكرمه ، حين يرى هذا الإنسان الصغير الضئيل الجاهل القاصر ، الضعيف العاجز ، ينال من عناية الله ورعايته كل هذا القدر الهائل !

والإنسان ساكن صغير من سكان هذه الأرض . والأرض تابع صغير من توابع الشمس . والشمس نجم مما لا عد له ولا حصر من النجوم . والنجوم إن هي إلا نقط صغيرة - على ضخامتها الهائلة - متناثرة في فضاء الكون الذي لا يعلم الناس حدوده . وهذا الفضاء الذي تتناثر فيه تلك النجوم كالنقط التائهة إن هو إلا بعض خلق الله !

ثم ينال الإنسان من الله كل هذه الرعاية . . ينشئه ، ويستخلفه في الأرض ، ويهبه كل أدوات الخلافة - سواء في تكوينه وتركيبه أو تسخير القوى والطاقات الكونية اللازمة له في خلافته - ويضل هذا المخلوق ويتبجح حتى ليشرك بربه أو ينكره . فيرسل الله إليه الرسل ، رسولاً بعد رسول ، وينزل على الرسل الكتب والخوارق . ويطرد فضل الله ويفيض حتى لينزل في كتابه الأخير للبشر قصصاً يحدث بها الناس ، ويقص عليهم ما وقع لأسلافهم ، ويحدثهم عن ذوات أنفسهم ، ويكشف لهم عما فيها من قوى وطاقات ، ومن عجز وضعف ، بل إنه - سبحانه - ليحدث عن فلان وفلان بالذات ، فيقول لهذا : أنت فعلت وأنت تركت ، ويقول لذاك : هاك حلاً لمشكلتك ، وهاك خلاصاً من ضيقتك !

كل ذلك ، وهذا الإنسان هو الساكن الصغير من سكان هذه الأرض ، التابعة الصغيرة من توابع الشمس ، التائهة في هذا الوجود الكبير حتى ما تكاد تحس ! والله - سبحانه - هو فاطر السماوات والأرض ، وخالق هذا الوجود بما فيه ومن فيه بكلمة . بمجرد توجه الإرادة . وهو قادر على ان يخلق مثله بكلمة وبمجرد توجه الإرادة . .

والناس خلقاء أن يدركوا هذه الحقيقة ليدركوا مدى فضل الله ورعايته ورحمته ، وليستحيوا أن يستجيبوا للفضل الخالص والرعاية المجردة والرحمة الفائضة بالإعراض والجحود والنكران .

فهي من هذه الناحية لمسة وجدانية موحية ، الى جانب أنها حقيقة صادقة واقعة . والقرآن يلمس بالحقائق قلوب البشر ، لأن الحقيقة حين تجلى أفعل في النفس ، ولأنه هو الحق وبالحق نزل . فلا يتحدث إلا بالحق ، ولا يقنع الا بالحق ، ولا يعرض إلا بالحق ، ولا يشير بغير الحق . .

 
تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلۡفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِۖ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلۡغَنِيُّ ٱلۡحَمِيدُ} (15)

{ يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد( 15 ) إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد( 16 ) وما ذالك على الله بعزيز( 17 ) ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير( 18 ) }

المفردات :

الفقراء إلى الله : المحتاجون إليه .

الغنى : المستغني عنكم أيها الناس وعن سائر خلقه .

الحميد : المحمود بأفعاله وأقواله وحسن تدبيره أو كل الخلائق تحمده بكل لسان .

التفسير :

{ يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد }

نداء إلهي علوي يبصر الإنسان بحقيقة افتقاره إلى الله الذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره وأنزل له الكتب وأرسل إليه الرسل وهداه النجدين وبين له الطريقين ثم هو سبحانه لم يغلق بابه في وجه هذا الإنسان بل فتح له باب التوبة على مصراعيه يسمع النداء ويجيب الدعاء ويرشد المسترشدين ويهدي الضالين ويأخذ بيد التائبين فما أعز جنابه وما أغناه عن عباده وهو سبحانه المحمود على عطاياه الرؤوف الرحيم بالخلق أجمعين يتفضل بالنعم ويعطي الجميع قبل أن يسألوه فما أكثر نعمائه وما أجل ثناءه وصدق الله العظيم حيث يقول : الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار* وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار* واتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار . ( إبراهيم : 32-34 ) .

كم من شدة فرجها وكم من ظلمة بددها وكم من عسر يسره وكم من ذليل أعزه وكم من عزيز أذله وكم من غني أفقره وكم من فقير أغناه وكم من ضال هداه وكم من مستجير أجاره وكم من مضطر أجابه وكم من بائس يائس أجابه وأكرمه فله الحمد في الأولى والآخرة وله الثناء الحسن الجميل وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يقول : " اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت ضياء السماوت والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن ولك الحمد ، لا إله إلا أنت وعدك حق والجنة حق ، والنبيون حق ومحمد صلى الله عليه وسلم حق " . xi

اللهم ربنا لك الحمد أنت الغني ونحن الفقراء إليك اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا راد لما قضيت ولا ينفع ذا الجد منك الجد ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلۡفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِۖ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلۡغَنِيُّ ٱلۡحَمِيدُ} (15)

ولما اختص سبحانه بالملك ونفى عن شركائهم النفع ، أنتج ذلك قوله : { يا أيها الناس } أي كافة { أنتم } أي خاصة { الفقراء } أي لأنكم لاتساع معارفكم وسريان أفكاركم وانتشار عقولكم تكثر نوازعكم وتتفرق دواعيكم فيعظم احتياجكم لشدة ضعفكم وعجزكم عظماً يعد معه احتياج غيركم عدماً ، ولو نكر الخبر لم يفد هذا المعنى { إلى الله } أي الذي له جميع الملك ؛ قال القشيري : والفقر على ضربين : فقر خلقة ، وفقر صفة ، فالأول عام فكل حادث مفتقر إلى خالقه في أول حال وجوده ليبديه وينشيه ، وفي ثانية ليديمه ويبقيه ، وأما فقر الصفة فهو التجرد ، ففقر العوام التجرد من المال ، وفقر الخواص التجرد من الإعلال ، فحقيقة الفقر المحمود تجرد السر عن المعلولات .

ولما ذكر العبد بوصفه الحقيقي ، أتبعه ذكر الخالق باسمه الأعظم على قرب العهد بذكر الإشارة إلى الجهة التي بها وصف بما يذكر ، وهي الإحاطة بأوصاف الكمال فقال : { والله هو } أي وحده { الغني } أي الذي لا يتصور أن يحتاج لا إليكم ولا إلى عبادتكم ولا إلى شيء أصلاً . ولما كان الغنى من الخلق لا يسع غناه من يقصده ، وإن وسعهم لم يسعهم عطاؤه لخوف الفقر أو لغير ذلك من العوارض ، ولا يمكنه عموم النعمة في شيء من الأشياء فلا ينفك عن نوع ذم ، وكان الحمد كما قال الحرالي في شرح الأسماء : حسن الكلية بانتهاء كل أمر وجزء ، وبعض منها إلى غاية تمامه ، فمتى نقص جزء من كل عن غاية تمامه لم يكن ذلك الكل محموداً ، ولم يكن قائمه حميداً ، وكان الله قد خلق كل شيء كما ينبغي ، لم يعجل شيئاً عن إناه وقدره ، وكان الذم استنقاضاً يلحق بعض الأجزاء عند من لم يرها في كلها ولا رأى كلها ، فكان الذم لذلك لا يقع إلا متقيداً متى أخذ مقتطعاً من كل ، والحمد لا يقع إلا في كل لم يخرج عنه شيء ، فلا حمد في بعض ولا ذم في كل ، ولا حمد إلا في كل ، ولذلك قال الغزالي : الحميد من العباد من حمدت عوائده وأخلاقه وأعماله كلها من غير مثنوية .

وكان سبحانه قد أفاض نعمه على خلقه ، وأسبغها ظاهرة وباطنة ، وجعل لهم قدرة على تناولها . لا يعوق عنه إلا قدرته { وما كان عطاء ربك محظوراً } وكان لا ينقص ما عنده ، كان إعطاؤه حمداً ومنعه حمداً ، لأنه لا يكون مانعاً لغرض بل لحكمة تدق عن الأفكار فقال : { الحميد * } أي كل شيء بنعمته عنده والمستحق للحمد بذاته ،