ثم يجيء البيان بما يتناسق مع هذا التصوير : ( يوم لا تملك نفس لنفس شيئا ) . . فهو العجز الشامل . وهو الشلل الكامل . وهو الانحسار والانكماش والانفصال بين النفوس المشغولة بهمها وحملها عن كل من تعرف من النفوس ! ( والأمر يومئذ لله ) . . يتفرد به سبحانه . وهو المتفرد بالأمر في الدنيا والآخرة . ولكن في هذا اليوم - يوم الدين - تتجلى هذه الحقيقة التي قد يغفل عنها في الدنيا الغافلون المغرورون . فلا يعود بها خفاء ، ولا تغيب عن مخدوع ولا مفتون !
ويتلاقى هذا الهول الصامت الواجم الجليل في نهاية السورة ، مع ذلك الهول المتحرك الهائج المائج في مطلعها . وينحصر الحس بين الهولين . . وكلاهما مذهل مهيب رعيب ! وبينهما ذلك العتاب الجليل المخجل المذيب !
19- يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله .
في الآيتين السابقتين ورد استفهام عن يوم الدين ، ثم كرر الاستفهام لتفخيم أمر هذا اليوم ، فهو يوم الجزاء ، والعدالة المطلقة ، وانتقام الله من الظالمين الجبارين ، ومكافأة الطائعين .
وفي ختام السورة بيان واضح بأن يوم القيامة لا يغني فيه أحد عن أحد شيئا ، مثل ما كان في الدنيا ، حيث إذا غضب الملك من شخص فربما توسط له الشفعاء والوزراء أو أشباههم ، فتحوّل الغضب إلى رضا .
أما في الآخرة فلا شفاعة ولا بيع ولا شراء ولا وساطة ، بل كل إنسان مسئول عن عمله ، ولا ينفعه أقرب الناس إليه ، حيث يفرّ المرء من أخيه ، وأمه وأبيه ، وصاحبته وبنيه ، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه .
في ذلك اليوم لا يملك أحد لأحد شيئا ، فالملك كله والأمر كله لله ، وهو كذلك في الدنيا ، هو المسبب الحقيقي ، والناس سبب ظاهري ، وقد يظن بعض الناس في الدنيا أنه يملك شيئا ، لكن في الآخرة يظهر الأمر بوضوح تام .
يوم لا تملك نفس لنفس شيئا . أي : لا يقدر أحد على نفع أحد ولا خلاصه مما هو فيه ، إلا أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى ، وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم : ( يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار ، لا أملك لكم من الله شيئا )ix .
ولهذا قال : والأمر يومئذ لله . كقوله تعالى : لمن الملك اليوم لله الواحد القهّار . ( غافر : 16 ) .
يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله .
والأمر –والله- اليوم لله ، لكنه لا ينازعه فيه يومئذ أحد .
( اللهم أنت ربي ، لا إله إلا أنت ، خلقتني وأنا عبدك ، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ، أعوذ بك من شر ما صنعت ، أبوء لك بنعمتك عليّ ، وأبوء بذنبي ، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت )x .
ii في ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب 30/491 .
iii تفسير في ظلال القرآن نقلا عن كتاب : الله والعلم الحديث ، للأستاذ عبد الرزاق نوفل .
iv تفسير في ظلال القرآن نقلا عن كتاب : العلم يدعو إلى الإيمان .
v تفسير في ظلال القرآن نقلا عن كتاب : الله والعلم الحديث .
vi في ظلال القرآن : نقلا عن كتاب ( الله والعلم الحديث ) مع التلخيص والتصرف .
vii ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان :
رواه البخاري في الإيمان ( 16 ، 21 ) وفي الإكراه ( 6941 ) ، ومسلم في الإيمان ( 43 ) والترمذي في الإيمان ( 2624 ) ، والنسائي في الإيمان ( 4988 ) وابن ماجة في الفتن ( 4033 ) وأحمد في مسنده ( 11591 ) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار ) .
viii يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل والنهار :
رواه البخاري في مواقيت الصلاة ( 555 ) ، وفي التوحيد ( 7429 ، 7486 ) ، ومسلم في المساجد ( 632 ) ، والنسائي في الصلاة ( 485 ) ، وأحمد ( 27336 ، 9936 ) ، ومالك في النداء للصلاة ( 413 ) ، من حديث أبي هريرة بلفظ : ( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار . . . ) ، ورواه البخاري في الأذان ( 649 ) ، وفي تفسير القرآن ( 4717 ) ، ومسلم في المساجد ( 649 ) ، والترمذي في التفسير ( 3135 ) ، والنسائي في الصلاة ( 486 ) ، وابن ماجة في الصلاة ( 670 ) ، وأحمد ( 7145 ، 7557 ، 9783 ) من حديث أبي هريرة أيضا بلفظ : ( فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة ، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الصبح ) . يقول أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم { وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا } .
ix يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار :
رواه مسلم في الإيمان ( 303 ) ، والترمذي في تفسير القرآن ( 3109 ) ، والنسائي في الوصايا ( 3584 ) ، وأحمد ( 8051 ، 8372 ، 10307 ) .
x اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت :
رواه البخاري في الدعوات ( 6306 ، 6323 ) ، والنسائي في الاستعاذة ( 5522 ) ، وأحمد في مسنده ( 16662 ) من حديث شداد بن أوس بلفظ : ( اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك . . . ) الحديث .
ورواه ابن ماجة في الدعاء ( 3872 ) من حديث بريدة بلفظ : ( اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك . . . ) الحديث .
ولما بين أنه من العظمة بحيث لا تدركه دراية دار وإن عظم وإن اجتهد ، لخص أمره في شرح ما يحتمله العقول منه على سبيل الإجمال دافعاً ما قد يقوله بعض من لا عقل له : إن كان انضممت{[72081]} والتجأت إلى بعض الأكابر وقصدت{[72082]} بعض الأماثل فأخلص قهراً أو بشفاعة ونحوها ، فقال مبدلاً من " يوم الدين " في قراءة ابن كثير والبصريين بالرفع : { يوم } وهو ظرف ، قال الكسائي : العرب تؤثر الرفع إذا أضافوا {[72083]}الليل واليوم إلى{[72084]} مستقبل ، وإذا أضافوا إلى فعل ماض آثروا النصب { لا تملك } أي بوجه من الوجوه في وقت ما { نفس } أيّ نفس كانت من غير استثناء ، ونصبه الباقون على الظرف ، ويجوز أن تكون الفتحة للبناء لإضافته{[72085]} إلى غير متمكن{[72086]} { لنفس شيئاً } أي{[72087]} قل أو جل ، وهذا وإن كان اليوم ثابتاً لكنه في هذه الدار بطن سبحانه في الأسباب ، فتقرر في النفوس أن الموجودين يضرون وينفعون لأنهم يتكلمون{[72088]} ويبطشون ، وأما هناك فالمقرر في النفوس خلاف ذلك من أنه لا يتكلم أحد إلا بإذنه إذناً ظاهراً ، ولا يكون لأحد فعل ما إلا بإذنه كذلك ، فالأمر كله له دائماً ، لكن اسمه الظاهر هناك ظاهر-{[72089]} واسمه الباطن هذا مقرر لموجبات الغروروسار .
ولما كان التقدير : فلا أمر لأحد من الخلق أصلاً ، لا-{[72090]} ظاهراً ولا باطناً ، عطف عليه قوله : { والأمر } أي كله { يومئذ } أي إذ كان البعث للجزاء { لله * } أي مختص به لا يشاركه فيه-{[72091]} مشارك ظاهراً كما أنه لا يشاركه فيه باطناً ، ويحصل هناك{[72092]} الكشف الكلي فلا يدعي أحد لأحد أمراً{[72093]} من الأمور بغير إذن ظاهر خاص ، وتصير المعارف بذلك ضرورية ، فلذلك كان الانفطار والزلازل الكبار ، والإحصاء لجميع الأعمال الصغار والكبار ، وقد رجع أخرها كما ترى إلى أولها ، والتف{[72094]} مفصلها بموصلها{[72095]} - {[72096]}والله الهادي للصواب{[72097]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.