ولقد كان من مقتضيات تلك الحقيقة : حقيقة أن الله هو الذي خلق . وهو الذي علم . وهو الذي أكرم . أن يعرف الإنسان . ويشكر . ولكن الذي حدث كان غير هذا ، وهذا الانحراف هو الذي يتحدث عنه المقطع الثاني للسورة :
( كلا ! إن الإنسان ليطغى . أن رآه استغنى . إن إلى ربك الرجعى ) . .
إن الذي أعطاه فأغناه هو الله . كما أنه هو الذي خلقه وأكرمه وعلمه .
ليطغى : يتجاوز حدود ما شرع فيكفر ويظلم .
أن رآه استغنى : أي بسبب غناه أبطرته النعم .
الرجعى : الرجوع والمصير إلى الله .
6 ، 7 ، 8- كلاّ إنّ الإنسان ليطغى* أن رآه استغنى* إنّ إلى ربك الرجعى .
حقا إن الإنسان ليتعاظم ويتكبّر ، ويأخذه الغرور والفخر إذا أحس بالاستغناء ، أي بالوفرة في صحته وماله وتراثه ، ويوشك أن يكرر ما قاله قارون : إنما أوتيه على علم عندي . . . ( القصص : 78 ) .
أيها الإنسان الذي خلقه الله من نطفة ، وعلّمه ما لم يكن يعلم ، وأسدى إليه الفضل وسائر النعم ، إنك راجع إلى الله فيجازيك بعملك ، وستجد عملك شاخصا بين يديك ، وكتابك لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ، إلا أحصاها .
وفي الآيات تهديد ووعيد لكل عات متجبر ، مغرور بالغنى والجاه ، وهي في نفس الوقت خطاب لكل إنسان بأنه راجع إلى ربه ، وسيعرض عليه بلا حاجز ولا ترجمان ، يوم يقوم الناس لرب العالمين ، فليقدم خيرا لذلك اليوم .
وقد ذكر المفسرون أنه ورد الحديث الصحيح أن أبا جهل حلف باللات والعزّى لئن محمد صلى الله عليه وسلم يصلي ليطأنّ على رقبته وليعفّرنّ وجهه ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ليفعل ، فما فجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه ، فقيل له : ما لك ؟ فقال : إن بيني وبينه خندقا من نار وهولا وأجنحة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا ) .
والآية بعد ذلك عامة لكل من تنطبق عليه ، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
{ كلا } ردع للإنسان الكافر ، الذي قابل تلك النعم الجليلة بالكفر والطغيان . قيل : نزلت هذه الآية إلى آخر السورة في أبي جهل بعد زمن من نزول ما قبلها . وفي الحديث الصحيح : أن أبا جهل حلف باللات والعزى لئن رأى محمدا [ صلى الله عليه وسلك ] يصلي ليطأن على رقبته وليعفرن وجهه . فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ليفعل ؛ فما فاجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ، ويتقي بيديه . فقيل له : مالك ؟ فقال : إن بيني وبينه لخندقا من نار ! وهولا وأجنحة ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لو دنا مني لاحتطفته الملائكة عضوا عضوا ) فأنزل الله هذه الآية إلى آخر السورة . وقيل : " كلا " بمعنى ألا الاستفهامية . { إن الإنسان ليطغى . . . } أي ليجاوز الحد ، ويستكبر على ربه ، ويكفر به ! من أجل رؤية نفسه ذا غنى وثراء ، وقوة وقدرة !
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{ كَلاّ } يقول تعالى ذكره : ما هكذا ينبغي أن يكون الإنسان أن يُنْعِمَ عليه ربّه بتسويته خَلقه ، وتعليمه ما لم يكن يعلم ، وإنعامه بما لا كُفؤَ له ، ثم يكفر بربه الذي فعل به ذلك ، ويطغى عليه ، أن رآه استغنى .
وقوله : "إنّ الإنْسانَ لَيَطْغَى أنْ رآهُ اسْتَغْنَى" ، يقول : إن الإنسان ليتجاوز حدّه ، ويستكبر على ربه ، فيكفر به ، لأنْ رأى نفسه استغنت ...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
طغى بالغنى ، أي تكبر ، وافتخر بما رأى نفسه غنية . ...لأن الغنى يحمل على التكبر والافتخار والطغيان ، والطغيان هو المجاوزة عن الحد والتعدي فيه ، والفقر المنسي هو المجهد الذي ينسي غيره من النعم ...{ إن الإنسان ليطغى } { أن رآه استغنى } ليس هذا وصف ذلك الكافر بعينه على ما ذكره أهل التأويل -أبي جهل- ، لعنه الله ، ولكن هو وصف كل كافر أن رأى نفسه غنية ....
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
( كلا ) ردع وزجر ، وتقديره ارتدعوا وانزجروا معاشر المكلفين ، ثم أخبر ( إن الإنسان ليطغي ) ، ويحتمل أن يكون بمعنى حقا على وجه القسم بأن الإنسان ليطغى ، أي ليجاوز الحد في العصيان والخروج عن الطاعة . ...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أي : يتجاوز حدَّه إِذا رأى في نفسه أنه استغنى ؛ لأنه يَعْمَى عن مواضع افتقاره . ولم يقل : إِن استغنى بل قال : { أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى } فإذا لم يكن مُعْجَباً بنفسه ، وكان مشاهداً لمحلِّ افتقاره - لم يكن طاغياً ....
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{ كَلاَّ } ردع لمن كفر بنعمة الله عليه بطغيانه ، وإن لم يذكر لدلالة الكلام عليه . ...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
الآية نزلت بعد مدة من شأن أبي جهل بن هشام ، وذلك أنه طغى لغناه ولكثرة من يغشى ناديه من الناس ، فناصب رسول الله صلى الله عليه وسلم العداوة ونهاه عن الصلاة في المسجد ...
وتحقيق الكلام في هذه الآية أن الله تعالى لما ذكر في مقدمة السورة دلائل ظاهرة على التوحيد والقدرة والحكمة بحيث يبعد من العاقل أن لا يطلع عليها ولا يقف على حقائقها، أتبعها بما هو السبب الأصلي في الغفلة عنها وهو حب الدنيا والاشتغال بالمال والجاه والثروة والقدرة ، فإنه لا سبب لعمى القلب في الحقيقة إلا ذلك . ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ كلا } أي ارتدع أيها العالم عن الطغيان إن نلت الغنى حقاً { إن الإنسان } أي هذا النوع الذي هو نوعك ومن شأنه الأنس بنفسه والنظر في عطفه { ليطغى } أي من شأنه - إلا من عصمه الله سبحانه - أن يزيد على الحد الذي لا ينبغي له مجاوزته ....
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولقد كان من مقتضيات تلك الحقيقة : حقيقة أن الله هو الذي خلق . وهو الذي علم . وهو الذي أكرم . أن يعرف الإنسان . ويشكر . ولكن الذي حدث كان غير هذا ، وهذا الانحراف هو الذي يتحدث عنه المقطع الثاني للسورة : ( كلا ! إن الإنسان ليطغى . أن رآه استغنى . إن إلى ربك الرجعى ) . . إن الذي أعطاه فأغناه هو الله . كما أنه هو الذي خلقه وأكرمه وعلمه . ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وحرف { كلاّ } ردع وإبطال ، وليس في الجملة التي قبله ما يحتمل الإِبطال والردع ، فوجود { كلا } في أول الجملة دليل على أن المقصود بالردع هو ما تضمنه قوله : { أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى } الآية .
وحقُّ { كلاّ } أن تقع بعد كلام لإِبطاله والزجر عن مضمونه ، فوقوعها هنا في أول الكلام يقتضي أن معنى الكلام الآتي بعدها حقيق بالإِبطال وبردع قائله ، فابتدئ الكلام بحرف الردع للإِبطال ...
رَوى مسلم عن أبي حازم عن أبي هريرة قال : « قال أبو جهل : هل يعفر محمد وجهه ( أي يسجد في الصلاة ) بين أظهركم ؟ فقيل : نعم ، فقال : واللاتِ والعزى لئن رأيتُه يفعل ذلك لأطَأنَّ على رقبته، فأتَى رسولَ الله وهو يصلي، زعَم لِيطأ على رقبته، فما فجأهم منه إلا وهو يَنْكص على عقبيه ويتّقي بيده . فقيل له : ما لك يا أبا الحَكم ؟ قال : إن بيني وبينه لخندقاً من نار وهَوْلاً وأجنحة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو دَنا مني لاختطفته الملائكة عُضْواً عضواً. قال : فأنزل الله ، لا ندري في حديث أبي هريرة أو شيء بلغه : { إن الإنسان ليطغى } الآيات، اه .
وقال الطبري : ذكر أن آية { أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى } وما بعدها نزلت في أبي جهل بن هشام وذلك أنه قال فيما بلغنا : لئن رأيت محمداً يصلي لأطأن رقبته . فجعل الطبري ما أنزل في أبي جهل مبدوءاً بقوله : { أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى } .
ووجه الجمع بين الروايتين : أن النازل في أبي جهل بعضه مقصود وهو ما أوّله { أرأيت الذي ينهى } الخ ، وبعضه تمهيد وتوطئة وهو : { إن الإنسان ليطغى } إلى { الرجعى } .
واختلفوا في أن هذه الآيات إلى آخر السورة نزلت عقب الخمس الآيات الماضية وجعلوا مما يناكده ذِكر الصلاة فيها . وفيما روي في سبب نزولها من قول أبي جهل بناءً على أن الصلاة فُرضت ليلة الإِسراء، وكانَ الإِسراء بعد البعثة بسنين ، فقال بعضهم : إنها نزلت بعد الآيات الخمس الأولى من هذه السورة ، ونزل بينهن قرآن آخر ثم نزلت هذه الآيات ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإلحاقها ، وقال بعض آخر : ليست هذه السورة أول ما أنزل من القرآن .
وأنا لا أرى مناكدة تفضي إلى هذه الحيرة، والذي يستخلص من مختلف الروايات في بدء الوحي وما عَقبه من الحوادث أن الوحي فتَر بعد نزول الآيات الخمس الأوائل من هذه السورة وتلك الفترة الأولى التي ذكرناها في أول سورة الضحى ، وهناك فترة للوحي هذه ذكرها ابن إسحاق بعد أن ذكر ابتداء نزول القرآن، وذلك يؤذن بأنها حصلت عقب نزول الآيات الخمس الأول ولكن أقوالهم اختلفت في مدة الفترة ...
وليس تحديد مدتها بالأمر المهم ولكن الذي يهم هو أنا نوقن بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مدة فترة الوحي يرى جبريل ويتلقى منه وحياً ليس من القرآن . وقال السهيلي في « الروض الأنُف » : ذكر الحربي أن الصلاة قبل الإِسراء كانت صلاة قبل غروب الشمس ( أي العصر ) وصلاة قبل طلوعها ( أي الصبح ) ، وقال يحيى بن سلام مثله ، وقال : كان الإِسراء وفرض الصلوات الخمس قبل الهجرة بعام اه . فالوجه أن تكون الصلاة التي كان يصليها النبي صلى الله عليه وسلم صلاة غير الصلوات الخمس بل كانت هيئة غير مضبوطة بكيفية وفيها سجود لقول الله تعالى : { واسجد واقترب } [ العلق : 19 ] يؤديها في المسجد الحرام أو غيره بمرأى من المشركين فعظم ذلك على أبي جهل ونهاه عنها .
فالوجه أن تكون هذه الآيات إلى بقية السورة قد نزلت بعد فترة قصيرة من نزول أول السورة حدثت فيها صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفشا فيها خبر بدء الوحي ونزول القرآن ، جرياً على أن الأصل في الآيات المتعاقبة في القراءة أن تكون قد تعاقبت في النزول إلا ما ثبت تأخره بدليل بيِّن ، وجرياً على الصحيح الذي لا ينبغي الالتفات إلى خلافه من أن هذه السورة هي أول سورة نزلت .
فموقع قوله : { إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى } موقع المقدمة لما يَرد بعده من قوله : { أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى } إلى قوله : { لا تطعه } [ العلق : 19 ] لأن مضمونه كلمة شاملة لمضمون : { أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى } إلى قوله : { فليدع ناديه } [ العلق : 17 ] .
والمعنى : أن ما قاله أبو جهل ناشئ عن طغيانه بسبب غناه كشأن الإِنسان .
والتعريف في { الإنسان } للجنس ، أي من طبع الإنسان أن يطغى إذا أحسّ من نفسه الاستغناء ، واللام مفيدة الاستغراق العرفي ، أي أغلب الناس في ذلك الزمان إلا من عصمه خُلقه أو دينه .
وتأكيد الخبر بحرف التأكيد ولام الابتداء لقصد زيادة تحقيقه لغرابته حتى كأنه مما يتوقع أن يشك السامع فيه .
ولما كان الدم أكثر الأخلاط وأشدها هيجاناً ، فإن مرضه لا يشبهه شيء من أمراض بقية الأخلاط ، وكان مع ذلك سريع البرء إن أصيب علاجه وعولج بأمر قاهر أقوى منه ، وكان العلم قرين الغنى في الأغلب ، وكان زلة العالم تفوق زلة غيره ، قال معرفاً بعد التعريف بالإلهيات بأمر النفس مبيناً لقسم الإنسان المردود أسفل سافلين مقرراً لحاله ، ورادعاً له عن ضلاله : { كلا } أي ارتدع أيها العالم عن الطغيان إن نلت الغنى حقاً { إن الإنسان } أي هذا النوع الذي هو نوعك ومن شأنه الأنس بنفسه والنظر في عطفه { ليطغى * } أي من شأنه - إلا من عصمه الله سبحانه - أن يزيد على الحد الذي لا ينبغي له مجاوزته كما يزيد الخلط الدموي .