ولمسة أخرى في الرزق الذي يستمتعون به ، وينسون مصدره ، ثم لا يخشون ذهابه ، ثم يلجون في التبجح والإعراض :
( أم من هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه ? بل لجوا في عتو ونفور ) . .
ورزق البشر كله - كما سلف - معقود بإرادة الله في أول أسبابه ، في تصميم هذا الكون وفي عناصر الأرض والجو وهي أسباب لا قدرة للبشر عليها إطلاقا ، ولا تتعلق بعملهم بتاتا . فهي أسبق منهم في الوجود ، وهي أكبر منهم في الطاقة ، وهي أقدر منهم على محو كل أثر للحياة حين يشاء الله .
فمن يرزق البشر إن أمسك الماء ، أو أمسك الهواء ، أو أمسك العناصر الأولى التي منها ينشأ وجود الأشياء ? إن مدلول الرزق أوسع مدى وأقدم عهدا وأعمق جذورا مما يتبادر إلى الذهن عندما يسمع هذه الكلمة . ومرد كل صغيرة وكبيرة فيه إلى قدرة الله وقدره ، وإرساله للأسباب وإمساكها حين يشاء .
وفي هذا المدلول الكبير الواسع العميق تنطوي سائر المدلولات القريبة لكلمة الرزق ، مما يتوهم الإنسان أنها من كسبه وفي طوقه ، كالعمل ، والإبداع ، والإنتاج . . وكلها مرتبطة بقيام الأسباب والعناصر الأولى من جهة ومتوقفة على هبة الله للأفراد والأمم من جهة أخرى . فأي نفس يتنفسه العامل ، وأي حركة يتحركها ، إلا من رزق الله ، الذي أنشأه ، ومنحه المقدرة والطاقة ، وخلق له النفس الذي يتنفسه ، والمادة التي تحترق في جسده فتمنحه القدرة على الحركة ? وأي جهد عقلي يبذله مخترع إلا وهو من رزق الله الذي منحه القدرة على التفكير والإبداع ? وأي إنتاج ينتجه عامل أو مبدع إلا في مادة هي من صنع الله ابتداء ، وإلا بأسباب كونية وإنسانية هي من رزق الله أصلا ? . . ( أم من هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه ? ! ) . .
والتعبير يرسم خدا مصعرا ، وهيئة متبجحة ، بعد تقريره لحقيقة الرزق ، وأنهم عيال على الله فيه ، وأقبح العتو والنفور ، والتبجح والتصعير ، ما يقع من العيال في مواجهة المطعم الكاسي ، الرازق العائل وهم خلو من كل شيء إلا ما يتفضل به عليهم . وهم بعد ذلك عاتون معرضون وقحاء !
وهو تصوير لحقيقة النفوس التي تعرض عن الدعوة إلى الله في طغيان عات ، وفي إعراض نافر ، وتنسى أنها من صنع الله ، وأنها تعيش على فضله ، وأنها لا تملك من أمر وجودها وحياتها ورزقها شيئا على الإطلاق !
إن أمسك رزقه : إن أمسك الرحمان رزقه ، لا أحد غير الله يرسله .
لجّوا في عتوّ : تمادوا في استكبار وعناد .
نفور : تباعد عن الحق وشراد منه .
21- أمّن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجّوا في عتوّ ونفور .
إن الكون حافل بالأرزاق ، فالماء والأرض والفضاء ، والليل والنهار ، والهواء والنبات والماء ، وسائر الموجودات كلها أرزاق من الله ، بل والقوى العقلية المبدعة في الإنسان ، كلها من إبداع الخالق الرازق ، ولو حبس الله عنايته عن الإنسان لضلّ وزلّ .
من هذا الذي يرزقكم من فوقكم ومن تحتكم ومن خلجات أنفاسكم ، إذا أمسك الله عنكم رزقه ؟
والجواب : لا أحد يرزق غير الله ، لكن الكفار يسيرون في عتوّ واستكبار ، وشراد عن الحق ، ونفور وامتعاض من دعوة الرسل .
{ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ } أي : الرزق كله من الله ، فلو أمسك عنكم رزقه ، فمن الذي يرسله لكم ؟ فإن الخلق لا يقدرون على رزق أنفسهم ، فكيف بغيرهم ؟ فالرزاق المنعم ، الذي لا يصيب العباد نعمة إلا منه ، هو الذي يستحق أن يفرد بالعبادة ، ولكن الكافرون { لَجُّوا } أي : استمروا { فِي عُتُوٍّ } أي : قسوة وعدم لين للحق { وَنُفُورٍ } أي : شرود عن الحق .